بقلم : د. عادل بنحمزة
لا يزال وقع الجريمة البشعة التي راح ضحيتها شبان مغاربة ساقهم حظهم العاثر إلى المياه الإقليمية للجزائر قرب شاطئ السعيدية أقصى شرق المغرب، يثير ردود فعل تدين الجريمة البشعة لقوات الجيش الجزائري التي تجاوزت كل قواعد الاشتباك في حدودها الدنيا، وأطلقت النار بدم بارد على مدنيين عزل في عرض البحر. السلطات الجزائرية، بعد صمت طويل، قالت في بيان إنها وجهت إنذاراً للمعنيين بالأمر وأطلقت الرصاص في الهواء قبل أن توجه الرصاص إلى أجساد الضحايا.
البيان الذي أريد منه تبرئة قوات الجيش الجزائري تحول في الواقع إلى صك اتهام، ذلك أن جنوح قوارب أو دراجات مائية بفعل التيارات البحرية هو أمر شائع، ففي السنوات الأخيرة جنحت باخرة صيد جزائرية واجهت مشكلات تقنية إلى المياه الإقليمية المغربية، وتدخلت قبطانية ميناء الناظور لإغاثة الصيادين الجزائريين وقطر باخرتهم لإصلاحها في الميناء. وقع ذلك في عز القطيعة التي أعلنها النظام الجزائري، بل أكثر من ذلك، في الضفة الشمالية للمغرب هناك يومياً محاولات لتهريب المخدرات والهجرة السرية على مقربة من الشواطئ الإسبانية، لكن لم يحدث أبداً أن قوات الدفاع المدني الإسباني قد أطلقت النار على أحد.
حادثة مقتل شبان مغاربة على يد الجيش الجزائري في سياق مختلف، كان يمكن اعتبارها فشلاً فردياً لجنود يفتقدون ما يكفي من الخبرة، لكن الواقع عنيد ومفاده أننا أبعد ما نكون عن حادث حدودي مأسوي إلى حالة ذهنية ونفسية في الجارة الشرقية، بلغت درجة من العداء تجاوزت كل الحدود. قد لا يكون مفاجئاً حجم العداء الذي يبديه النظام الجزائري لكل ما هو مغربي، لكن الجميع يتفق على أنه في الوقت نفسه هناك روابط كبيرة تجمع البلدين، وهذه الروابط كانت حاجزاً أمام كل مشاريع النخب الحاكمة في قصر المرادية التي كانت تستهدف القطيعة المطلقة بين الشعبين المغربي والجزائري، وقد ظهر ذلك جلياً في تعاطف جماهير الشعبين الشقيقين في أكثر من مناسبة رياضية في أشد لحظات التوتر والصراع بين البلدين، وذلك على مدى عقود، وربما كانت تلك المشاعر رد فعل على منطق القطيعة التي يستثمر فيها النظام الجزائري، لكن هل الصورة اليوم على ذلك الشكل أم أن تغييرات قد حدثت؟
المتابع لردود فعل جزء من الشارع الجزائري على كل ما هو مغربي في السنوات الأخيرة، يكتشف أن مياهاً كثيرة جرت تحت الجسر، صحيح أنه ليست هناك إحصائيات علمية تسند هذه القناعة، لكن هناك انطباعات بحكم تواترها تصبح أقرب إلى الحقيقة التي لا تحتاج كبير عناء لإثباتها، ذلك أن النظام الجزائري استثمر استثماراً سيئاً في وسائل التواصل الاجتماعي واستطاع أن يصنع جزءاً من رأي عام يتبنى سرديته حول المغرب، بل إن الأمر تجاوز منطق المنافسة والغيرة إلى نرجسية جماعية سقط فيها عدد من الجزائريين، ليس فقط في العلاقة مع كل ما هو مغربي، بل تجاوز الأمر ذلك إلى كل ما هو غير جزائري.
إذا كانت النرجسية الفردية تتمحور على حب الفرد لذاته، فإن النرجسية الجماعية هي نوع من أنواع النرجسية التي ينتقل فيها ذلك الشعور نحو الذات إلى شعور نحو الجماعة الوطنية أو العرقية أو الدينية التي ينتمي إليها، وتعطيه شعوراً وهمياً بالتفوق، وأنه بحاجة إلى اعتراف الآخرين الدائم بتلك الحقيقة المتوهمة، وقد قدم لنا التاريخ القديم والمعاصر نماذج كثيرة عن اضطراب النرجسية الجماعية، نذكر من ذلك بعض اليهود الذين يعتقدون أنهم شعب الله المختار أو الحركة النازية التي نجحت في تسويق وهم سمو الجنس الجرماني، وما إلى ذلك من حركات سياسية وأيديولوجية نظرت لتفوق الجنس الأبيض. والنرجسية الجماعية قد تتوسع من جمهور لفريق كرة قدم إلى شعب بكامله، وتتعزز إمكانية السقوط الجماعي في حالة نرجسية عندما يصادف الأمر بنية سلطوية وريثة نظام يعيش اضطرابات كبيرة في تحديد الهوية الوطنية…
ما يحدث في الجزائر اليوم هو اضطراب خطير في تحديد الهوية الوطنية، بحيث إن النظام الحاكم عوض أن يتقبل حقائق التاريخ ويبني عليها، وهي على كل حال ليست نقيصة أو عيباً، نراه يسعى إلى لي عنق الحقائق التاريخية ويتعسف في قراءة التاريخ، وبالنتيجة فإنه أصبح عاجزاً عن النظر إلى المستقبل، الذي تؤكد الوقائع في عالم اليوم، أنه لا يمكن التوجه إليه منفردين مثقلين بكميات كبيرة من الحقد، الأمر لا يتعلق هنا ببعض ممثلي النظام الجزائري، بل إن من وضعه العسكر على رأس الدولة، كلما تحدث إلى الإعلام، كعادته، يُظهر بساطة شديدة ومعرفة لا تختلف كثيراً عن إدراك المواطن العادي، وهذا الأمر يهم أيضاً جنرالات الجيش الجزائري الحاكم الفعلي لقصر المرادية. هل يتعلق الأمر بنفس شعبوي في الحكم؟ أعتقد أننا قريبون من ذلك، لكن ما هي الأسباب العميقة التي تجعل بنية نظام تعيش أزمة هوية ممتدة منذ الاستقلال وتتأثر بغياب ثقافة الدولة وتقاليدها، تنتج كل هذا العداء والتوجس من المغرب؟ وكيف عوضت النخبة الحاكمة هناك معركة بناء الدولة والالتفاف حول هوية جامعة، إلى مجرد دفاع مستميت وتعبئة الموارد للحفاظ على بنية النظام القائم منذ الاستقلال والاستثمار في العداء للمغرب؟