بقلم : د. عادل بنحمزة
تدخل غداً الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة أسبوعها الثالث، وسط دمار شامل لقطاع غزة وجرائم حرب ترتكب يومياً ومن دون رادع، وسط دعم غربي سياسي ومالي وعسكري ودبلوماسي وفّر غطاءً سياسياً كبيراً لحكومة نتنياهو. الداخل الإسرائيلي، رغم حجم الدمار الذي ألحقته آلة الحرب في غزة، لم يستطع تجاوز صدمة 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وبدا أن معنى الهوية الإسرائيلية أضحت موضوع نقاش وسط انقسام ممتد منذ سعي حكومة اليمين المتطرف إلى تعديل القوانين المنظمة للمحكمة العليا.
الهوية الإسرائيلية التي صمدت لوقت طويل وهي تحاول تقديم نفسها في إطار موحد، أظهرت الحرب الأخيرة كثيراً من حقيقتها وهشاشتها. ظهر ذلك جلياً مع حجم مزدوجي الجنسية بين الإسرائيليين، وأظهرت الأحداث عن عدد منهم مستعد للتخلي عن حلم/مشروع الحركة الصهيونية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحكاية اليهود الذين تم تهجيرهم إلى إسرائيل عبر عمل دعائي كبير، وهي عمليات تهجير كانت فيها قصص إنسانية محزنة مثل قصص العديد من المغاربة الذين تم تهجيرهم، وهو ما يجعل عددهم اليوم كبيراً جداً في إسرائيل ويقارب مليون نسمة. يراهن البعض على ذلك الحضور الديموغرافي واستمرار ارتباطهم بالمغرب ليمكن الرباط من لعب دور في تحريك عملية السلام والانتصار لحل الدولتين ووقف الجرائم الإسرائيلية.
قبل ثلاث سنوات نشر شمعون حاييم سكيرا، الكاتب العام لفيدرالية اليهود المغاربة في فرنسا، على حسابه الشخصي في “فايسبوك”، تدوينة وجه فيها تهمة (…) كونه إسرائيلياً لحزب الاستقلال المغربي بأن الحزب كان سبباً في هجرته وهو لا يتجاوز 15 سنة. جاءت تلك التدوينة في سياق ما كانت تعرفه المنطقة من خطابات وتصورات تتعلق بإمكان التطبيع بين عدد من الدول العربية وإسرائيل في ما عُرف بعدها باتفاقيات أبراهام، والحديث الذي جرى في تلك الفترة عن إمكان استئناف المغرب علاقاته مع إسرائيل.
حديث سكيرا غير صحيح من الناحية التاريخية ومتهافت من الناحية السياسية وغير بريء من ناحية التوقيت الذي صدر فيه، ذلك أن الحقيقة التاريخية تقول إن تهجير المغاربة اليهود سابق حتى على ميلاد إسرائيل، فالمغرب منذ نهاية الحرب العالمية الأولى كان من بين أكثر الدول استهدافاً من الدعاية الصهيونية، بل أسست منظمات في المغرب تدور في فلك الحركة الصهيونية وتروّج للهجرة إلى أرض الميعاد مستثمرة المشاعر والعواطف الدينية مثل “أهفات تسيون” و”شيفات تسيون” و”حبيت تسيون”، ولا يخفى على أحد كيف واجه المغرب ضغوط حكومة فيشي في فرنسا والمتواطئة مع النازية، لهذا فالحديث عن اضطهاد اليهود في المغرب أمر متهافت ليس له ما يسنده تاريخياً. صحيح أنه في فترات طويلة لم يكن هناك تمييز بين الحركة الصهيونية والدين اليهودي، مع الأسف هذا الأمر ما زال مستمراً عند البعض إلى اليوم، ويمكن رصد ذلك في بعض الشعارات التي ترفع في مسيرات التضامن مع القضية الفلسطينية، لكن هذا الأمر كان شائعاً لفترة طويلة ووجد له صدى في الإعلام الوطني المغربي من منتصف الخمسينات وإلى نهاية الستينات من القرن الماضي، كما كان في مقابل ذلك الاحتفاء بانتقال مغاربة من الديانة اليهودية إلى الإسلام، وهذا الأمر كان عادياً وطبيعياً، بمنطق تلك الفترة، في مجتمع عاش مثل هذه الوقائع منذ سقوط الأندلس. لهذا فمحاولة تصوير ذلك على أنه سياسة حزبية تسعى لتهجير اليهود المغاربة، بخاصة من خلال كتابات دافيد عمار، كان مجرد طرح متهافت ويتناقض وموقف الحركة الوطنية المغربية وفي مقدمتها حزب الاستقلال وقيادته من القضية الفلسطينية، إذ كان الزعيم الراحل علال الفاسي أول من أخبر بموعد انطلاق الكفاح الفلسطيني المسلح، فكيف يستقيم أن يساهم حزب علال الفاسي الرافض للصهيونية، بشكل غير مباشر في تعزيز ديموغرافية الكيان الصهيوني؟ هذا منطق مقلوب وغير متماسك بتاتاً، من دون أن ننسى كيف اكتشف التهجير السري لليهود المغاربة من خلال الحادثة الشهيرة المؤسفة لسفينة “Pisces” سنة 1960 التي راح ضحيتها عدد من المغاربة اليهود، وهو ما فتح ساعتها كثيراً من الأسئلة عن موقف القيادات اليهودية السياسية والدينية ومن كان يوفر الغطاء لتلك الهجرة.
يمكن القول بأن اليهود المغاربة كانوا ضحايا مرتين، المرة الأولى من خلال استهدافهم الممنهج بالدعاية الصهيونية، وفي المرة الثانية، من خلال الظروف القاسية التي طبعت عمليات التهجير التي كانت تشرف عليها الوكالة اليهودية في ظروف غير إنسانية، مستهدفة فقراء اليهود الذين سيعانون داخل الكيان الصهيوني عنصرية مقيتة في إطار ثنائية “الأشكيناز” و”السفارديم”، وهي عنصرية ما زالت مستمرة إلى اليوم، علماً أن تلك العنصرية لم تكن موجودة في المغرب إطلاقاً، لذا فمحاولة اختزال الأمر وتوجيه التهمة إلى حزب الاستقلال هو أمر فيه كثير من التبسيط والاختزال ويمثل تعسفاً على الحقيقة التاريخية ونوعاً من التبرير المتأخر للفكرة الصهيونية.
لقد زاوجت الأنوية الأولى للحركة الوطنية المغربية بين بناء الفكرة الوطنية القائمة على التحرر من الاستعمار، والوعي بالقضايا العادلة على المستوى الدولي، والتي كانت على رأسها القضية الفلسطينية، إذ قاد الزعيم علال الفاسي سنة 1929 انتفاضة تاريخية في فاس ضد مشاريع العصابات الصهيونية على أرض فلسطين والتي كانت تقوم على استهداف المقدسات الإسلامية، حيث قامت العصابات الصهيونية بهدم مسجد عمر الذي كان موضوع عريضة تنديدية وقعها طيف واسع من ساكنة فاس بتحريض مباشر من الزعيم علال تم توجيهها للإقامة العامة.
لعب الزعيم علال الفاسي دوراً بارزاً في القضية الفلسطينية، وكان واحداً ممن شهدوا وساندوا تأسيس حركة “فتح” ومنظمة التحرير الفلسطينية، إذ قام بوصفه الأمين العام لمكتب المغرب العربي في القاهرة – حيث كان منفياً – بعمل مهم وسط الطلبة الفلسطينيين في القاهرة والذين كان من بينهم القائد الكبير الراحل أبو عمار ياسر عرفات، فقد كان قادة الكفاح الفلسطيني ينادون الزعيم علال بلقب “الوالد”، ونتيجة هذه الحظوة كان علال الفاسي أحد القلائل الذين كانوا على معرفة مسبقة بساعة انطلاق الرصاصة الأولى لتحرير فلسطين سنة 1965.. واستمرت مكانة علال عند القيادة الفلسطينية، بل شاءت الأقدار أن تكون آخر مهامه قبل أن يدركه الأجل المحتوم في رومانيا سنة 1974، هو طلبه من الرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو فتح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في بوخارست وهو المطلب الذي تمت الاستجابة له، وبعدها فارق الزعيم علال الحياة.