الذكاء الاصطناعي ومخاطر التحوّل إلى ديكتاتورية رقمية

بقلم : د. عادل بنحمزة

كان البرلمان الأوروبي، الأسبوع الماضي، مسرحاً للحظة استثنائية وتاريخية، قد يكون لها ما بعدها، في إطار علاقة الإنسان بآخر ما توصّل إليه العقل البشري على المستوى التكنولوجي. فقد أقرّ النواب الأوروبيون تعديلات على مسودة لقواعد استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، حيث يُعتبر هذا الإطار القانوني أول قانون لتنظيم الذكاء الاصطناعي في العالم، وذلك بعد إنجاز المصادقة عليه من جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي.

يهدف القانون وفق ما تمّ الإعلان عنه، إلى التأكّد من أنّ أنظمة الذكاء الاصطناعي آمنة وتلتزم قواعد أخلاقية تخضع الشركات التقنية لها، بخاصة بعد التقدّم الكبير الذي أحرزته شركة Open Ai مع روبوتها ChatGPT الذي أظهر قدرات غير مسبوقة.

مشروع القانون الأوروبي أيضاً، يسعى إلى فرض حظر على استخدام الذكاء الاصطناعي في رصد وتحليل القياسات الحيوية والتنبؤ بالسلوك الاجتماعي للناس، وكذلك أنظمة مثل تلك المتعلقة بالتعرف التلقائي على الوجه في الأماكن العامة، فهذه تحتاج إلى آليات للمنع وإخضاعها لقواعد صارمة ومتشدّدة.
لكن في المقابل، يجب التسامح مع الاستعمالات العادية والبسيطة، وذلك بحسب المخاطر التي يشكّلها على مستعمليه، علماً أنّ تلك المخاطر لم يعد كبار العلماء قادرين على التنبؤ بها في ظلّ الذكاء الاصطناعي التوليدي، وهو ما يجعل عمالقة التكنولوجيا غير قادرين على تقديم ضمانات كافية، بخاصة أنّ الأمر يتضمّن مجالات واسعة، من الأخبار الكاذبة وتشكيل الرأي العام والتحكّم في مخرجات العمليات الانتخابية، إلى الأسلحة الذاتية وإلغاء دور البشر، مروراً بانتكاسات سوق العمل.

ومختلف المخاطر الأمنية التي تهدّد الاستقرار حول العالم، بالشكل الذي يدفع إلى التساؤل عن الهدف الذي يخدمه كل هذا التقدّم العلمي في ظلّ غياب قواعد واضحة وحدود أخلاقية.

موضوع الذكاء الاصطناعي يثير في السنوات الأخيرة سجالات سياسية وقانونية وأخلاقية، ويبدو أنّ شركات التكنولوجيا العملاقة متفلتة من كل رقابة قانونية أو قواعد أخلاقية، لذلك فإنّ المبادرة التشريعية الأوروبية يمكن اعتبارها لحظة تأسيسية لمسار يبدو طويلاً، بخاصة أمام واقع التطور السريع الذي يعرفه مجال الذكاء الاصطناعي وتوسّع المجالات التي يؤثر فيها. علماً أنّ الكونغرس الأميركي بدوره منخرط في هذا المسار، حيث نظّم جلسات استماع مع مدراء الشركات الكبرى مثل Google وMicrosoft وOpen Ai وApple وMeta وغيرها، لبحث مخاطر التوظيف غير الآمن للذكاء الاصطناعي وانعكاسات ذلك على الأمن والنظام العامين وحماية الخصوصية، بل أكثر من ذلك، تمّ بحث الضمانات التي يقدّمها المطوّرون للذكاء الاصطناعي الذي لم تعد المجالات التي يُستعمل فيها قابلة للحصر، إذ هناك مخاوف كبيرة جداً من تأثيراته.

هذه التأثيرات كانت موضوع تحذيرات “جيفري هينتون”، الذي يُعتبر أحد الآباء المؤسسين للذكاء الاصطناعي والمستقيل من شركة Google،  إذ سبق وأن حذّر من مخاطر الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي يمكن أن يصبح في وقت قريب أذكى من الإنسان، الذي أوجده.

جدّية تلك المخاطر تتضح أيضاً في انخراط الكثير من الخبراء في المجال بمن فيهم “إيلون ماسك”، في حملة دولية لوقف الأبحاث في مجال الذكاء الاصطناعي إلى حين وضع قواعد واضحة مؤطّرة لها.

قبل سنوات راجت أخبار على أنّ خبراء Facebook اضطروا إلى فصل الطاقة عن روبوتات استطاعت أن تتواصل في ما بينها بلغة خاصة بها، بل إنّ ثورة الذكاء الاصطناعي يمكن أن تقدّم لنا أسوأ نموذج للتحالف ما بين الآلة والأنظمة الشمولية، وهو ما يذكّرنا بما سبق وأن أبدعه “جورج أورويل” في روايته الشهيرة “1984” عندما عبّر بسخرية سوداء عن اللجوء إلى استحداث لغة جديدة يسهل من خلالها التحكّم في المفاهيم والمفردات وقدرتها على إنتاج المعنى، بحيث يقول على لسان إحدى الشخصيات في الرواية: “ألا ترى أنّ الغاية النهائية للغة الجديدة هي التضييق من آفاق التفكير؟
بحيث تصبح جريمة الفكر في نهاية المطاف جرماً مستحيل الوقوع من الناحية النظرية، وذلك لأنّه لن توجد كلمات يمكن للمرء من خلالها أن يرتكب هذه الجريمة.

فكل مفهوم يحتاج إليه الناس سيتمّ التعبير عنه بكلمة واحدة محدّدة المعنى وغير قابلة للتأويل، أما معانيها الفرعية، فيتمّ طمسها حتى تصبح طي النسيان. إننا في الطبعة الحادية عشرة لن نكون بعيدين عن هذا الهدف.

ولكن تلك العملية ستستمر على هذا المنوال إلى أمد حتى بعد رحيلنا أنا وأنت عن هذا العالم، فالكلمات تتناقص عاماً بعد عام، كما يتضاءل مدى الوعي والإدراك شيئاً فشيئاً. بل وحتى في الوقت الراهن، ليس هناك سبب أو عذر يبرّر اقتراف جريمة الفكر. لقد باتت المسألة مجرد انضباط ذاتي وضبط يفرضه المرء على واقعه، وفي النهاية لن تكون هناك حاجة حتى لذلك.

ستبلغ الثورة أوجها حينما تكتمل اللغة ويتمّ اتقانها. إنّ “الأنجسوك” هي اللغة الجديدة واللغة الجديدة هي الأنجسوك”.

قال أورويل هذه العبارة وهو في غاية النشوة، ثم أردف: “هل خطر لك أبداً يا ونستون أنّه مع حلول عام 2050 في أقصى حدّ، لن يتبقّى على وجه الأرض إنسان يمكنه فهم حديث كهذا الذي نتبادله معاً الآن؟”.

شيء من ذلك استشعرته الحكومة السويدية قبل أيام، عندما قرّرت مراجعة التحوّل الرقمي في مدارسها، بالعودة إلى الاعتماد على الكتب والدفاتر والأقلام، بالنظر إلى أثر الرقمنة على تردّي مستوى الطلاب في القراءة والكتابة، وبالنتيجة التفكير…

على مستوى آخر، أدّت التقنية إلى مظهر غير مسبوق يتعلّق بفائض الإنتاج، وأنّ الأسواق لا تعاني من الخصاص بل من الفائض، كما أنّ التقنية عوض أن تساهم في تخفيف الضغط على العمال، فإنّها تحولت للمرّة الأولى في التاريخ إلى عامل مساهم في رفع مستويات البطالة وهشاشة العمل، لأنّ جزءاً من الأرباح أضحى يتمّ تحقيقه على حساب الأجور ومناصب العمل وظروف العمل.

لقد أكّد عالم الاقتصاد الأميركي “جيريمي ريفكين” وغيره من الباحثين قبل قرابة ثلاثين سنة، أنّ العالم دخل “ثورة اقتصادية” و”نموذجاً اقتصادياً جديداً” اصطلح على تسميته بـ”الثورة الصناعية الثالثة” والتي تمثل الأساس الذي شُيّدت عليه في السنوات القليلة الماضية الثورة الصناعية الرابعة التي يهيمن فيها الذكاء الاصطناعي، وهي ثورة فتحت الباب واسعاً لما يسمّيه ريفكين في كتاب صدر قبل عشرين سنة بـ”نهاية العمل”، وهي مرحلة غير مسبوقة في التاريخ الإنساني وحافلة بالتحدّيات والفرص.

المثير للانتباه اليوم، هي السرعة التي يتطور فيها اقتصاد المعرفة، إذ بدأ الحديث عمّا بعد الذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة، فنحن اليوم واقعياً أمام ما يُسمّى بـCognitive Technology، وهي مقاربة أشمل من الذكاء الاصطناعي، تسعى لتجاوز أعطاب التقنية في الثورة الصناعية الرابعة بخاصة العلاقة بين ثلاثية: الإنسان، التقنية والإنتاج، ما يجعلنا عملياً ندخل زمن الثورة الصناعية الخامسة 5.0، التي تتزامن مع التحوّل التكنولوجي الهائل الذي سيعرفه العالم مع تكنولوجيا “الميتافيرس” وثورة الإنترنت من الجيل الخامس والسادس، إضافة إلى الكمّ الهائل من المعلومات التي يجب تخزينها وتحليلها.

لقد كان الاقتصاد السياسي للبطالة قبل عقود، مقتنعاً أنّ التطور الذي تعرفه التكنولوجيا، لن يغيّر جوهرياً من طبيعة العمل، إذ ستنقرض مهن وتعوّضها مهن أخرى، كما حدث منذ الثورة الصناعية الأولى المرتبطة بالطاقة البخارية. غير أنّ الواقع الذي يعيشه العالم منذ سنوات وسيعرفه بحدّة أكبر في المستقبل، يقوم على حقيقة مفادها أنّ اقتصاد المعرفة الجديد يقضي على مهن من دون تعويضها، بل إنّ كثيراً من المهن ستنقرض في السنوات القليلة المقبلة، وكل ذلك بسبب التطور التكنولوجي الذي تعوّض فيه الآلات الذكية الإنسان، في عالم يشهد ارتفاع الطلب على العمل بسبب ارتفاع عدد سكان الأرض.

فكيف يمكن ربح معادلة استمرار التطور التكنولوجي، وفي الوقت ذاته حماية الحق في الشغل؟ وكيف يمكن منع التقدّم التكنولوجي من التحوّل إلى أداة للسلطوية؟

مغرب العالم: جريدة إلكترونية بلجيكية -مغربية مستقلة