بقلم : دكتور عادل بنحمزة
تعيش غزة فصول مجزرة جديدة منذ أكثر من خمسة وأربعين يوماً، تتجاوز في بشاعتها، ربما، كل المجازر السابقة التي ارتكبتها إسرائيل في حق الفلسطينيين منذ تاريخ النكبة سنة 1948.
كل ذلك يجري في سياق مرحلة نتابع فيها فصلاً جديداً يكتبه الشعب الفلسطيني الأعزل في مواجهة آلة الغطرسة الإسرائيلية، على أمل أن يفتح ذلك مسار مرحلة جديدة في قضيته العادلة، ووضع قواعد جديدة للمواجهة، أول مرتكزاتها هو أن الفلسطينيين يجب أن يكونوا مالكين لزمام المبادرة يخدمون بتجرد أجندتهم الوطنية ومستقلين قولاً وفعلاً عن القوى الإقليمية مبتعدين من سياسة المحاور ومتحصنين أولاً بعدالة القضية التي تجدد صداها في مختلف عواصم العالم، وثانياً بمصداقية مطالبهم في الحرية وحقهم غير القابل للتصرف في قيام الدولة. فلا الشرعية الدولية المهترئة والانتقائية قادرة على تمكينهم من حقوقهم التاريخية، ولا التجزئة والتقسيم الداخلي قادران على منحهم المصداقية والقدرة على تعبئة الرأي العام الدولي بصفة مستمرة وممتدة بعيداً من التأثر الذي يرتبط بصور المجازر وينتهي في لحظات الهدوء الخادع. وحدها وحدة الصف والابتعاد من لعبة المحاور وعدم الارتهان لهذا الطرف أو ذاك، هي الكفيلة بعودة الروح إلى قضية شغلت الناس لعقود طويلة، لكنها فقدت زخمها وقوتها الأخلاقية بفعل الانقسام الفلسطيني.
الأحداث الجارية اليوم على أرض فلسطين تذكرنا بحجم حضور القضية الفلسطينية في وعي المغاربة والعواطف التي يحملونها لأرض فلسطين كما ترسخت في ذاكرتهم وفي نفوسهم، إذ لم يميز المغاربة على مدى عقود بين تحرير المغرب من الاحتلال الفرنسي والإسباني، وتحرير فلسطين من الانتداب البريطاني وبعده قرار التقسيم القاضي بإحداث “وطن لليهود” على أرض فلسطين.
لقد زاوجت الأنوية الأولى للحركة الوطنية المغربية بين بناء الفكرة الوطنية القائمة على التحرر من الاستعمار، والوعي بالقضايا العادلة على المستوى الدولي والتي كانت على رأسها القضية الفلسطينية، إذ قاد الزعيم الوطني علال الفاسي سنة 1929 انتفاضة تاريخية في مدينة فاس ضد مشاريع كانت تستهدف هويتها الدينية، وقد تم في تلك الفترة هدم مسجد عمر، فكان ذلك موضوع عريضة تنديدية وقعها طيف واسع من سكان فاس بتحريض مباشر من الزعيم الفاسي تم توجيهها للإقامة العامة للاحتلال الفرنسي في المغرب.
لعب الزعيم علال الفاسي دوراً بارزاً في القضية الفلسطينية، وكان واحداً ممن شهدوا وساندوا تأسيس حركة “فتح” ومنظمة التحرير الفلسطينية، فهو بوصفه آنذاك الأمين العام لمكتب المغرب العربي في القاهرة – حيث كان منفياً منذ سنة 1937 – قام بعمل بارز وسط الطلبة الفلسطينيين في القاهرة الذين كان من بينهم القائد الكبير الراحل ياسر عرفات، حتى أن قادة الكفاح الفلسطيني كانوا ينادون الزعيم علال بلقب “الوالد”، ونتيجة هذه الحظوة كان علال الفاسي أحد القلائل الذين كانوا على معرفة مسبقة وعالية عند القيادة الفلسطينية، بل شاءت الأقدار أن تكون آخر مهامه بطلب من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قبل أن يدركه الأجل المحتوم، مطالبة الرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو بإنشاء مكتب للمنظمة في بوخارست، وهو المطلب الذي وافق عليه حالاً تشاوشيسكو وبعدها مباشرة فارق الزعيم علال الحياة.
في الدار البيضاء سنة 1970 لمناسبة ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال قال علال الفاسي: “…كلكم تذكرون أن “فتح” العظيمة بدأت عملها الفدائي الجبار سنة 1965، وتذكرون أنني في المجلس الوطني* المنعقد إذّاك، عرفت بهذه المنظمة العتيدة وبرجالها الأحرار، وأعلنت تأييد حزب الاستقلال لها ومطالبته بنصرتها، ويحق لحزبنا الفخر بأن يكون أول هيئة عربية سبقت لتقدير هذه العصبة المؤمنة، ووضعت ثقتها فيها، وها هي ذي “فتح” تفرض الاعتراف بها على الدول العربية وعلى غيرها من الدول والجماعات، وذلك بما تواصله من جهاد إيجابي في سبيل تحرير فلسطين وإنقاذ القدس من أيدي الصهيونيين الغاشمين …”.
لقد كان حزب الاستقلال بوصفه الرافد الرئيسي للحركة الوطنية المغربية، رافضاً دائماً أي مشروع لتقسيم أرض فلسطين وقيام دولة يهودية، وأصدر في ذلك بياناً شهيراً وقعه باسم قيادة الحزب، الراحل أحمد اليازيدي، ومما جاء في ذلك البيان الذي صدر على ما يتوافر لدي من معلومات يوم 12 كانون الثاني (يناير) 1946: “إن الصهيونيين غير محقين في مطالبتهم بتأسيس وطن قومي في أرض فلسطين بعد أن تثبت البراهين التاريخية أن العرب يسكنون تلك الديار منذ عشرات القرون، وأن الحكم كان فيها للمسلمين منذ ثلاثة عشر قرناً من دون انقطاع، بينما لم يعمرها اليهود خلال أربعة قرون، وفي عهود متقطعة ومن دون استقرار. فمطالبهم إذاً هي محض تَعَدٍّ على حقوق أهل البلاد الطبيعية، ووعد بلفور الذي يؤيدها لا يرتكز على أساس شرعي أو منطقي، وليس لقرار هجرة اليهود إلى فلسطين من معنى إلا استعمارها من جديد، بل استعمارها بأفظع أنواع الاستعمار”.
هناك من ينكر أن اليهود تحملوا في السنوات الماضية نكبات شديدة وابتلوا بلاءً قاسياً، خصوصاً في أوروبا الوسطى. فالمسلمون أول من يعتقد أن اليهود جديرون اليوم بالرأفة والشفقة من بعد محنتهم، ولكنهم أيضاً أول من يرى أنه ليس من العدل أبداً أن يكون ذلك التخفيف كله على حساب فلسطين، لا سيما أن المسلمين لم يصلوا اليهود بأذى في القرون الغابرة، بل طالما آسوهم وأكرموا ضيافتهم، فينبغي إذاً أن تساهم أمم العالم كلها في تضميد جراحات اليهود وتخفيف آلامهم، كما اقترحت ذلك جامعة الدول العربية… هذا ونحن بلسان حزب الاستقلال نؤكد القول من جديد بأن الشعب المغربي الذي طالما آوى المهاجرين من اليهود والذي عرقلت حكومته تطبيق القوانين التي سنّتها حكومة فيشي أيام احتلال فرنسا، لا ينوي أي عداء لعامة اليهود، فأحرى لمن يعيشون منهم وإياهم في آن واحد، وإنما احتجاجنا موجه ضد مطامع الصهيونية بفلسطين، وآمالنا أن يجد لهذا المشكل رؤساء الدول الحليفة باتفاق مع ممثلي الشعب الفلسطيني ومع الجامعة العربية حلاً تحفظ معه لعرب فلسطين حقوقهم المشروعة”.
إن هذه الفقرات التي فضّلت نقلها حرفياً، تبرز وعي قيادة حزب الاستقلال بطبيعة النزاع على أرض فلسطين وتبعات تأسيس الكيان الصهيوني، إذ توقعت قيادة حزب الاستقلال منذ 1946، أن ذلك سيدخل المنطقة في عدم استقرار لا ينتهي، وهو ما نحن شهود عليه على امتداد العقود الماضية وإلى اليوم، بعدما تلكأ المنتظم الدولي في القيام بواجباته في حماية السلام وحماية الشعب الفلسطيني وفي حقه في ما تبقى من فلسطين التاريخية بناءً على ما وضعته الشرعية الدولية نفسها.
* يقصد المجلس الوطني لحزب الاستقلال المنعقد سنة 1965