بقلم : ذ. يونس مسكين
أخيرا، عادت الإدارة الأمريكية في شخص وزير خارجيتها أنتوني بلينكن هذا الاثنين 03 يونيو 2024، لتلتفت نحو المغرب في ملف غزة، داعية إياه إلى الضغط على حركة حماس لقبول مقترحها الخاص بإنهاء الحرب، بعد ثمانية أشهر بالتمام والكمال من “القيامة” التي فجّرها طوفان الأقصى، وتسبّبت في قلب العديد من الحسابات وتعديل كثير من المعادلات.
لا أفهم لماذا يتم الإعلان عن اتصالات وزيري خارجية المغرب وأمريكا عبر مكتب الناطق باسم الخارجية الأمريكية أولا، وأحيانا كما هو الحال مع الاتصال الجديد، من جانب واشنطن فقط.
هذا الأمر يعطي الانطباع بوجود تراتبية كما لو أن بوريطة موظف عند بلينكن، ويخلّف شعورا غير مريح بتاتا عند المواطن المغربي.
الأمريكيون أصدقاء كبار وحيويون للمغرب. لكنهم يحرموننا من بوريطة الشقي الذي “يطنز” على وزيرة ألمانية ويفرد جناحيه متبخترا أمام أخرى فرنسية، ويسجّل الأهداف “المقصّية” بتعبير المطبّلين، في مرمى الخصوم.
أمام الأمريكيين والإسرائيليين نكتشف بوريطة آخر، لا يريحنا بكل صراحة، كأنهم قراصنة تحكّموا في نظام “تشغيله”.
آخر اتصال، معلن على الأقل، جرى بين وزيري الخارجية المغربي والأمريكي، يعود إلى أكتوبر الماضي، حين حلّ بلينكن في إسرائيل معلنا صهيونيته ووقوف بلاده الكامل مع دولة الاحتلال، وكان ذلك الاتصال في سياق ضغوط أمريكية مكشوفة، غايتها حمل الدول العربية، خاصة منها المرتبطة بعلاقات رسمية مع إسرائيل، على إعلان اصطفافها خلف واشنطن في موقفها الداعم لإسرائيل، وبالخصوص، إدانة حركة حماس واعتبار ما حققته في سابع أكتوبر المجيد عملا إرهابيا…
بعد ذلك، لم يُسمع لنا، تقريبا، أي صوت مؤثّر في معركة الإبادة الشاملة التي خاضها فلسطينيو غزة بكل شجاعة وبصدور عارية. وحدها حالات المواطنين المغاربة العالقين في القطاع كانت تعيد اسم المغرب إلى الواجهة بين الفينة والأخرى، وحتى شحنة المساعدات الإنسانية التي تمكن المغرب من إدخالها إلى القطاع عبر طريق برية غير مألوفة، تبدو كما لو كانت “هدية” ملغّمة من جانب الإسرائيليين وحلفائهم الأمريكيين، لأننا سرعان ما سعنا المطالب والضغوط الرامية إلى حملنا على إرسال قوات مغربية ضمن عملية حفظ سلام عربية بغطاء دولي، هدفها الأخير حماية إسرائيل وممارسة الوصاية على الفلسطينيين.
غيابنا الواضح هذا عن المشاركة في تدبير الأبعاد الدبلوماسية، الإقليمية والدولية، لواحدة من أشرس المعارك وأكثرها دموية وتأثيرا على مستقبل العالم، في مقابل حضور قوي لدول عربية أخرى تتقدّمها مصر وقطر، وبشكل أقل الأردن، يعني من جهة أولى، في قراءة للنصف المملوء من الكأس، أننا قاومنا بشكل أو بآخر.
لقد كان المغرب مطالبا منذ اليوم الأول لما بعد طوفان الأقصى، بتحويل الاتفاق الثلاثي الموقع في دجنبر 2020 مع كل مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، إلى شبه اتفاقية دفاع مشترك، والخروج بكل الطرق الممكنة لإثبات وفائه لهذا الحلف، من خلال الوقوف خلف إسرائيل وإدانة الفلسطينيين في شخص حركة حماس.
كانت المقاومة المغربية واضحة لا تخطئها العين، وكان الثمن فوريا من خلال تطاول إسرائيلي فج على المغرب ومصالحه، من خلال إدانة المظاهرات الشعبية التي ينظمها المجتمع وتؤمّنها السلطات، وكان تصنيف المغرب كمنطقة خطيرة لا يمكن للإسرائيليين زيارتها، وكان سحب بطعم الغضب والاحتجاج لموظفي مكتب الاتصال الإسرائيلي في الرباط…
وآخر ما دفعه المغرب، هو ذلك المشهد الوقح الذي أطلّ علينا فيه سيّء الذكر بنيامين نتانياهو، عبر قناة فرنسية، وهو يبتر الصحراء من ترابنا الوطني ومن كامل المجال العربي الذي يعتبر نفسه وصيا عليه ومكلْفا بإضعافه وإخضاعه من طرف حلفاءه الغربيين.
هذا عن الجانب الإيجابي في القصة. لكن للعملة وجه سلبي أيضا.
الواضح الآن، وواشنطن تستعد لعرض مشروع قرار على مجلس الأمن الدولي لإنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة وفق مخطط يفضي أيضا إلى تحرير أسرى جيش الاحتلال لدى حركة حماس، أننا بالكاد نجحنا في النجاة بجلدنا من هذه المعركة.
قد يقول قائل إننا بلد صغير ومحدود الإمكانيات، ومجرد النجاة من نيران المعركة وشظاياها يعتبر إنجازا كبيرا مقارنة بالخسائر التي كان يمكن أن نتكبْدها.
لكنه دفع مناقض لما قدّمته لنا السردية الرسمية لما بعد توقيع الاتفاق الثلاثي، إن لم يكن على لسان الدولة رسميا، فعن طريق من يقدّمون أنفسهم مدافعين عنها بالتبرير والتطبيل.
أخبرنا هؤلاء أن إحياء العلاقات الرسمية بين المغرب وإسرائيل، والانغماس الكامل في هذه العلاقات بكل ما نملك من مصالح اقتصادية وسياسية وعسكرية وأمنية، سيحقق لنا مكاسب كبيرة واستراتيجية، أقلّها الحصول على اعتراف دولي بمغربية الصحراء، دون أن يعني ذلك الخروج من مربّع التأثير في مجريات الأحداث في الشرق الأوسط.
قيل لنا أننا نتمتع بأوراق وازنة مع الجانب الفلسطيني، منها علاقات وثيقة على المستويات الرسمية والشعبية، وتاريخ مشترك طويل، ورئاسة للجنة القدس داخل منظمة التعاون الإسلامي، وإن “التطبيع” سيحرر طاقات جديدة يحوزها المغرب لكنها كامنة، وعلى رأسها “نفوذ” مزعوم داخل لإسرائيل، عن طريق اللوبيات اليهودية في واشنطن، وما يقال له جالية مغربية مستوطنة في فلسطين، على أساس أن الذين تسللوا خلفية ودفعوا الرشاوى وزوروا جوازات السفر والتحقوا بالعصابات الصهيونية في فلسطين، يمكن اعتبارهم جالية مغربية!
ما حصل هو أننا أصبحنا خارج المعادلة، ولا يتذكّرنا مسؤول لا يتجاوز مستوى وزير الخارجية الأمريكي، إلا لتوجيه ما يشبه الأوامر إلى حكومتنا، كي تتخذ هذا الموقف أو ذاك.
حتى الأدوار التي كان المغرب يلعبها في عقود مضت، عبر القوة الناعمة للمؤسسة الملكية، وبعد تقارب شديد الحذر مع وجوه إسرائيلية محسوبة، نظريا على الأقل، على “حمائم السلام”… حتى ذلك لم تعد لنا إمكانية لعبه أو حتى الظهور في خلفية مشهده.
الخطوات المتلكئة التي يقدم عليها الحليف الأمريكي تجاه الملفات الحساسة للمغرب، أي قضية الصحراء والتعاون العسكري، غير مقنعة ولا تعدو أن تكون أكثر من “تقطير” لجرعات بالكاد تبقي العطشان على قيد الحياة.
لا الاعتراف المعلن من الإدارة الأمريكية بمغربية الصحراء وجد طريقه نحو قرارات مجلس الأمن التي تتولي واشنطن تحرير مسوّدتها، ولا قنصلية الداخلة تمّت، ولا مستوى التسليح العسكري حقق للمغرب تفوّقا إقليميا يحميه من التهديدات.
مناورات الأسد الإفريقي التي جرت مؤخرا، لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها من مؤشرات التقدّم في العلاقات المغربية الأمريكية، لأنها تقليد قديم، ولم يعرف في الفترة الأخيرة سوى تقدما خجولا نحو المنطقة المتنازع عليها من أراضي المغرب، وهي كمناورة عسكرية سنوية، أجندة أمريكية أولا ومصلحة أمريكية في النهاية.
هذا هو صافي “ميزان الأداءات” الخاص بنا في معركة غزة المجيدة ضد “الوحش” كما قال وزير الثقافة السابق محمد الأشعري.
نتيجة رمادية لا هي بالبيضاء ولا هي بالسوداء، لكنها مثقلة بالدروس والعبر والخلاصات التي لن تكون لها فائدة أن لم تُستثمر اليوم.
العالم اليوم وهو يستعد لكف العدوان عن غزة، تمهيدا لانتخابات نهاية هذا العام الأمريكية، لم يعد هو عالم ما قبل 7 أكتوبر. وبعدما اجتزنا العاصفة الهوجاء، علينا أن نعيد ترتيب حساباتنا، ونتأمل كيف كانت خسائرنا من وراء الاستثمار الكلي في البورصة الإسرائيلية، أكبر من أرباحنا.
تطبيع العلاقات مع إسرائيل هو مجرّد بند في علاقاتنا مع الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك، في واشنطن، يوجد الكثير من الدهاة والبراغماتيين الذين سيتقبّلون منا خطاب الربح والخسارة هذا، إن نحن اجتهدنا في العثور على قنوات تبليغه كما نجتهد في تبليغ رسائل أخرى…
والشكر كلّه للمقاومة الفلسطينية التي جنّبتنا عار تسوّل لقاء النقب الثاني في صحراء غير الصحراء الفلسطينية، وشبح زيارة كان يتردد أنها مبرمجة لسيء الذكر نتانياهو.
هذا الأخير أحرق نفسه بنفسه بمشهد الخريطة المبتورة الملطخة بدماء الأطفال الفلسطينيين العالقة بيديه، فلتكن لنا الإرادة الكافية للنفخ على بقايا رماده وتحرير مصالحنا مع واشنطن من خسة الصهاينة، وبالمرة تحرير وزير خارجيتنا، ناصر بوريطة، من مفعول القرصنة.