تاج يكتب..” دروس أحمد المرزوقي وفيكتور فرانكل “

بقلم: د.مصطفى تاج



منذ سنين طويلة، وأنا أحرص على متابعة أغلب البرامج الجادة التي تتيحها لنا وسائل التواصل الاجتماعي، ومن ضمنها برامج كانت بمثابة دروس لي في الحياة وفي السياسة وفي البحث عن معنى الوجود. إلا أنني توقفت كثيرا عند برامج استضافت الكاتب أحمد المرزوقي المعتقل السابق في سجن تازمامارت، وصاحب كتاب “الزنزانة 10”. وكان آخرها برنامج “في ضفاف الفنجان” الذي يقدمه الصحفي اللامع يونس مسكين.

ثلاث ساعات ونصف من الحديث والسرد مرت بسرعة البرق، وتركت في مخيلتي زوبعة ذهنية أكاد لا أستفيق منها. كيف استطاع الراوي الحالي (المعتقل السابق) ومن كان معه الصبر والتحمل طيلة قرابة العقدين من الزمن في مثل تلك الظروف؟ هل يستطيع الكائن البشري العيش في غرفة مظلمة بدون ضوء ولا أشعة شمس طيلة تلك المدة؟ كيف يقدر الإنسان على العيش بنفس اللباس ونفس الوجبة الغذائية وفي نفس الحيز المكاني طيلة سنوات؟ ما الدافع الذي جعل أبطال الرواية يتحملون كل ما قاسوه ويتكيفون على حياة لا تغيير فيها ولا رحابة ولا ألوان ولا أضواء بقدر ما هي ممتلئة بالضيق والروائح الكريهة والطعام البئيس؟؟

تتوالد هذه الأسئلة وأخرى داخل مخيلتي بتوالي لحظات السرد وأنا أركز بكل طاقتي على حركات المرزوقي وابتسامته التي لا تغادر محياه، وهو يسرد علينا عشرات القصص التي عاشها عن قرب في سجن تازمامارت وما قبل الاعتقال وما بعده. فأجد نفسي وكأني أستمع لبطل ملحمي خرج علينا من إحدى قصص أساطير اليونان القدامى. كيف يكسو وجهه البياض ويمتلئ قلبه الصفاء والسماحة ويتمسك بالابتسام والأمل والتفاؤل بعد كل ما وقع له؟ كيف لا زال يحمل هم وطن تخلى عنه في عز شبابه وذاق منه الويلات؟ كيف لا زال وفيا لمن خذلوه وتسببوا في إهانته؟

إن شخص أحمد المرزوقي يجب أن يدرس في الجامعات، بشكل علمي دقيق، ويجب أن تسلط على حياته الأضواء، كيف لا وقد استطاع تغيير المعتقدات وتحطيم العديد من المسلمات التي وصل اليها العلم قبل أن نتعرف على قصته. فقدرته على العيش في الظلام، وقدرته على حفظ القرآن الكريم بدون كتاب، وقدرته على التكيف وسط بيئة لا تمت للإنسانية بصلة، ومهاراته في خلق آليات التواصل مع زملائه، وبث الأمل فيهم، والتمسك بروح الدعابة وحس الفكاهة وقوة الإيمان… كل هذه المعجزات أبطلت ما وصل العلم إليه، وقلبت المسلمات القديمة رأسا على عقب، بل هي شبيهة بنظرية كوبرنيك حول دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس عكس ما كان شائعا حينها، وشبيهة بنظرية فرويد حول قوة الشعور والنفس البشرية على التأثير في العقل وتوجيه تفكيره واتخاذ القرارات عوضا عنه بدل العكس.

لقد تحمل المرزوقي كل تلك الأعباء وكل ذلك العناء، وقدم لنا حياة تستحق الوقوف عندها. حياة لا تشبه بقية الحيوات بتاتا، حياة تقربنا من زمن الحياة البدائية التي لم يكن فيها الإنسان هو الإنسان. حياة بطعم الموت، وكان بهذا مثل طائر الفينيق الذي انبعث من رماده، ليشهد ويوثق بشهادته على جزء بئيس من تاريخ المغرب الحديث، ليكشف لنا عن الشر الكامن فينا، ليرينا أنفسنا في المرآة، وليعلمنا كيف تكون القدرة الإنسانية على الصبر والتحمل والتمسك بالأمل رغم البؤس والحزن والظلام. ويا لها من فرصة تستوجب منا الوقوف عليها بتمحيص كبير كي نعالج عبرها ذواتنا المريضة بالأنانية والنكران والاحتقار والغرور والخذلان.

إن قصة المرزوقي تشبه إلى حد كبير حكاية الدكتور النمساوي فيكتور إميل فرانكل، الذي قضى بدوره ثلاث سنوات من حياته معتقلا في أحد معسكرات الاعتقال النازية خلال الحرب العالمية الثانية، فكلا منهما خاض معركته من أجل البقاء، ومن أجل النجاة، وكلاهما تذوقا مرارة العذاب والقسوة وعاشا الجوع والبرد والخوف من الموت في كل لحظة.

وإن ساعد التكوين العلمي فرانكل في استثمار تواجده في المعتقل لدراسة شريحة المعتقلين وتسليط الضوء على حالاتهم العقلية والنفسية، وبناء مدرسة علمية جديدة قائمة على نظرية العلاج بالمعنى، والتي اعتبرت منذ ستينيات القرن الماضي كثالث مدرسة للعلاج النفسي، ساهمت إلى حد كبير في التأسيس والتأصيل لعلم النفس الحديث، فإن الحاجة ملحة اليوم لدراسة كتاب المرزوقي وتعميق البحث في شهاداته، ليس فقط بخلفية سياسية وأخلاقية، ولكن لأغراض علمية كذلك، قد تفيد في تطوير العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية على حد سواء.

إن المفارقة التي يعيشها الكثير من الناس حوالينا اليوم، هي أنهم لا يستطيعون إيجاد معنى لحياتهم، رغم أن الظروف وفرت لهم الكثير من المتطلبات وسبل العيش الكريم، فتراهم يكثرون من العبث ويقبلون على التفاهة وينغمسون في الأفكار العدمية ويتماشون مع السلوكات الهدامة… مما يقتضي من أولي الأمر منا ومن مجتمع المثقفين والباحثين والسياسيين ومن كافة مكونات النخبة الوطنية بحث سبل الاستثمار في نظرية العلاج بالمعنى، النظرية التي صاغها فرانكل وتبناها المرزوقي – بوعي أو بدونه – فقاوما المعاناة والمأساة، فاستطاعا العيش في أسوإ الظروف التي يمكن أن يعيش فيها الإنسان العادي، فلم يستطع السجن النيل من إنسانيتهما، ولم يمنعهما من الانشغال بإيجاد أسباب يحييان من أجلها، ولا باكتشاف سبل تمكنهما من التواصل مع الذات ومع الآخرين. وإنهما ولعمري عبرتان يمكن الاحتذاء بهما كمثلان للبحث عن المعنى في قلب الأزمة، في بلورة المعنى في عز المعاناة، حيث يستطيع الإنسان أن يوقظ في نفسه الإحساس بمسؤوليته اتجاه ذاته واتجاه ربه واتجاه الآخرين واتجاه الحياة. فالمعاناة، كيفما كانت، ومهما اختلفت أسبابها، ومهما صغرت أو كبرت حدتها، تتوقف عن أن تكون معاناة في اللحظة التي تكتسب فيها معنى. لذلك، فإن هاته التجربتان تحيلان على أن الإنسان لا ينبغي له أن يسأل عن معنى لحياته، بقدر ما يجب أن يخلق هو معنى يرضيه لحياته.

مغرب العالم: جريدة إلكترونية بلجيكية -مغربية مستقلة