دافعوا عن وطن بوشكين وتولستوي

بقلم : د. عادل بنحمزة

 “دافعوا عن وطن بوشكين وتولستوي” بهذه العبارة الشاعرية استنهض ستالين الشعب الروسي في خطاب على أثير الإذاعة للمقاومة، والنازيون على أبواب موسكو، لم يفعل ذلك الرئيس فلاديمير بوتين يوم السبت الماضي عندما كانت قوات “فاغنر” على بعد 100 كلم من العاصمة موسكو، بالتأكيد ليست هناك مقارنة بين جحافل هتلر وقوات “فاغنر”، لكن الخطر الوجودي الذي كان يتهدد بنية النظام السوفياتي هو نفسه ما شهدته روسيا بوتين في ساعات حبست الأنفاس، وكان متعذراً فهم ما ستعرفه روسيا بعدها.

لم يكن المشهد الروسي أكثر عبثية مما ظهر عليه نهاية الأسبوع الماضي، إذ بدا توغل قوات “فاغنر” داخل الأراضي الروسية واقتراب قوافلها العسكرية من العاصمة موسكو، مشهداً سوريالياً لا يصدق، زادته تعقيداً التصريحات التي كان يدلي بها زعيم المجموعة العسكرية الخاصة بريغوجين والتي كانت تتهجم صراحة وبوضوح على النظام الحاكم في موسكو. 

تمرد قوات “فاغنر” على بنية النظام في موسكو يمثل تطوراً لافتاً في ما تعيشه روسيا داخلياً، ويبدو أن هذا التمرد العسكري كشف كثيراً من الضعف، سواء على مستوى القيادة السياسية أم العسكرية، ذلك أن التوتر بين قوات “فاغنر” والجيش الروسي ظهر منذ شباط (فبراير) الماضي، عندما أعلن قائد المجموعة أن الجيش الروسي يريد القضاء على مجموعته، وقد أظهرت معركة “باخموت” ذلك بوضوح، ففي آذار (مارس) كشفت “فاغنر” أن الشرطة الروسية منعت وصول متطوعين إلى مناطقها، بل إن بريغوجين أكد في أكثر من تصريح مصور في شهر أيار (مايو) من هذه السنة، أن الجيش الروسي يمتنع عن تزويده بالذخائر، بل ذهب أبعد من ذلك عندما اتهم القوات الروسية بتلغيم المناطق الخلفية لقوات “فاغنر”، وذلك لتعقيد عمليات انسحابها، إضافة إلى عدم انخراط الطيران الروسي بفعالية في التغطية على معارك المجموعة مع القوات الأوكرانية. التوتر بين “بريغوجين” وموسكو بلغ حد قوله يوم 24 أيار (مايو) إن روسيا قد تشهد ثورة مثيلة لثورة 1917 وتخسر الحرب، وهي الإحالة  نفسها التي وظفها بوتين في خطابه المندد بتحرك قوات “فاغنر” داخل التراب الروسي، مضافة إليها تصريحات قائد المجموعة صديق بوتين، تطابق الإحالتين يوضح حجم الهشاشة التي تحيط بالنظام في موسكو.

الصورة إذاً توضح أن تمرد بريغوجين لم يأت بالصدفة، بل هو نتيجة تراكم سوء اعتبار له ولمجموعته من قيادة القوات الروسية، ويتأكد ذلك بوضوح في الأزمة الأخيرة، إذ كان وزير الدفاع سيرغي شويغو وقائد الأركان فاليري غيراسيموف مستهدفين مباشرةً من قبل قائد فاغنر، وما يعزز تورط القائدين الروسيين هو اختفاؤهما الكامل طيلة مرحلة الأزمة، ليس فقط على المستوى السياسي والإعلامي، بل أيضاً على المستوى العملياتي، إذ اقتحمت قوات “فاغنر” مقار قيادات الجيش في مناطق عدة من دون مقاومة، بل وصلت قواتها إلى أقل من 100 كلم عن العاصمة موسكو.

من المؤكد أن استبعاد أمر الحسم العسكري في مواجهة “فاغنر” اتُّخذ من طرف الرئيس بوتين شخصياً بوصفه القائد العام للجيش، لكن غياب أي أثر لوزير الدفاع ورئيس الأركان في أكبر أزمة تعرفها روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، يطرح أكثر من علامة استفهام.

سيناريو الحوادث يؤكد وجود صراع عميق في محيط بوتين على خلافته في المرحلة المقبلة، ويمكن اعتبار أن استقدام بريغوجين وقواته “فاغنر” إلى أوكرانيا، كان بمثابة فخ نصبه وزير الدفاع وقائد الأركان للقضاء على بريغوجين سياسياً وعسكرياً، ويبدو أن الانتقادات التي وجهها بريغوجين منذ شباط الماضي، لم يُستمع إليها جيداً في موسكو، وأن تطور الحوادث أوضح أنه تم التغرير بقوات “فاغنر” التي قدمت منذ وصولها إلى الجبهات مع أوكرانيا أداءً أفضل من القوات الروسية، وهذا الأمر كان أيضاً في دونيتسك سنة 2018 وفي شبه جزيرة القرم سنة 2014، لذلك أضحى بريغوجين شخصاً مزعجاً وغير مرغوب فيه بالنظر إلى ما يشكله من مخاطر سياسية وعسكرية على كل الطبقة المتحلقة حول بوتين في الكرملين، لكنه لا يقدم الإضافات التي يقدمها هو نفسه لمصالح روسيا كما يحدث مثلاً في أكثر من بلد أفريقي، وربما هذا الأمر هو ما يفسر اختيار الرئيس بوتين تدبير الأزمة بأقل قدر من المواجهة والخسارة المادية والمعنوية في مواجهة تمرد “فاغنر”، بل إن قبول بوتين بالتسوية التي اقترحها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو ومنها إسقاط أي متابعة جنائية، سواء بالنسبة إلى بريغوجين أم إلى أفراد قواته، لا يعكس الطابع الصارم والحاد لشخصية الرئيس الروسي والتي حرص على إظهارها دائماً، بخاصة في مواجهة تمرد عسكري من هذا الحجم، ولعل تعامله مع خصومه السياسين كاف للتحقق من هذا الأمر، يمكن تفسير ذلك باقتناع الرئيس بوتين بوجود مؤامرة من حوله، وربما هذا ما يفسر أيضاً حجبه كلاً من وزير الدفاع وقائد الأركان في انتظار عزلهما النهائي، أم أن بوتين قدر أن ظهوره منفرداً في مواجهة تمرد “فاغنر” من شأنه أن يرسخه قائداً وحيداً، وهنا بالضبط تكمن مشكلة بوتين ونظامه، إذ يعيد الرئيس الروسي كثيراً من الأعطاب البنيوية التي كانت أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي، وعلى رأسها الطابع الفردي للحكم، بل الصور اليوم أكثر سوءاً في ظل غياب بديل واضح لبوتين، بينما كانت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي تعج بالأسماء التي كان بإمكانها تولي القيادة وتقديم المشورة والرأي. وعن الموضوع يقول جوزيف ستالين سنة 1931 جواباً عن سؤال للكاتب والصحافي الألماني إميل لودفيك في موضوع إدارة الدولة وما إذا كانت القرارات تتخذ فردياً، إن “الأفراد بأشخاصهم لا يقررون، إذ إن القرار الفردي هو دائماً وحيد الجانب (لا يعالج المسألة المطروحة من جوانبها المختلفة)، تجربتنا المستخلصة من ثلاث ثورات تؤكد أن 90% من القرارات الفردية التي لم تحاكم جماعياً كانت وحيدة الجانب. وبالنسبة إلى هيئتنا القيادية، وهي اللجنة المركزية التي توجه المنظمات السوفياتية والحزبية، فهي تضم سبعين عضواً بينهم أفضل رجال الصناعة وأفضل قادة العمل التعاوني وأفضل المديرين والعسكريين. إن حكمة حزبنا تتركز في هذه الهيئة العليا”، والظاهر اليوم أن “بوتين يفتقد هذا الأمر بل إن كثيراً من التقارير كانت قد أفادت بأن الرئيس بوتين يعيش معزولاً بصفة كلية عن الوسائل التقنية بحجة الخوف من اختراق مكالماته ومحادثاته، لكن هذه العزلة وفي إطار ما يحمله التاريخ من دروس دسائس الحاشية وصراعات الأجهزة، يمكن أن تقرأ قراءة مختلفة، بخاصة في بنية تتسم بالفساد وغياب الشفافية وضعف الشرعية وقلة الوازع الأيديولوجي”.

يقول أحد أعضاء المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية متحدثاً عن الوضع في روسيا بوتين، إن “الفساد هو وسيلة فعالة للحفاظ على السيطرة على النخب الاقتصادية والسياسية والبلدية ووسائل الإعلام وحتى المثقفين…ففي هذا النظام القائم على المحسوبية، تتم المكافأة على أساس الولاء وليس الجدارة، والحصول على ثروة مكتسبة بطرق غير مشروعة هو مكافأة وكذلك ضمان لولاء لا يتزعزع”…

أحد جوانب تمرد قوات “فاغنر” أيضاً، يتمثل في رغبة حلف الناتو في نقل المعركة داخل التراب الروسي، لكن من دون تورط مباشر للقوات الأوكرانية، وقد تابعنا في أيار الماضي ظهور ما يسمى بميليشيات “حرية روسيا” التي تنشط داخل الأراضي الروسية ولا تخفي رفضها للنظام في موسكو، فهل ينجح الغرب في استثمار تناقضات النظام في موسكو؟ أم أن بوتين سينجح في منع تحول بريغوجين إلى حميدتي روسي؟
 وهل صحيح أن روسيا لا تفهم بالعقل كما يقول، المثل الروسي؟

مغرب العالم: جريدة إلكترونية بلجيكية -مغربية مستقلة