دفاعا عن النقابات .. دفاعا عن الوطن

بقلم : د. مصطفى تاج/ المغرب

تميز الاحتقان العمالي الذي عرفته الساحة التعليمية ببلادنا طيلة الثلاث الأشهر الأخيرة بخروجه على العادة مرة أخرى، ذلك أنه انطلق من طرف ما سميت بالتنسيقيات الفئوية، احتجاجا على الوزارة الوصية على القطاع التي استصدرت نظاما أساسيا جديدا اعتبر بأنه يمس بقيمة المدرسين ولا يرقى إلى مستوى تطلعات الشغيلة التعليمية ككل… فيما لم تسلم النقابات التعليمية نفسها من نيران القذف والسب والتخوين من طرف التنسيقيات التي اعتبرتها شريكة في ارتكاب “جريمة استصدار النظام الأساس الجديد”.

مختلف المجريات والحيثيات التي رافقت ما وقع، جعلتنا أمام وضعية التنافر والتباعد بين مطالب التنسيقيات وخطواتهم الاحتجاجية من جهة، وبين كل من الوزارة الوصية والنقابات التعليمية من جهة أخرى. هذه الأخيرة التي استمرت في الحوار والتفاوض حول نظام أساسي لم يخرج إلا ليجمد ويراجع…

في وقت ضاعت فيه ملايير من الساعات الدراسية، راح ضحيتها أزيد من ثمانية ملايين من التلاميذ المغاربة، الذين ينتمون في أغلبيتهم الساحقة للطبقات المتوسطة والفقيرة والفقيرة جدا… حيث توقفت الدراسة بشكل كامل في أسلاك الابتدائي والثانوي الإعدادي والتأهيلي وعطلت المدرسة العمومية التي تعاني أصلا وتجتر نتائج عقود من التقهقر والتخبط.

وبعد أزيد من عشرة أسابيع من الحراك في القطاع، استقبلت فيها لجنة حكومية كل النقابات والتنسيقيات المعنية، واستمعت اليها وحاورتها، تم التوقيع بتاريخ 26 دجنبر 2023 على محضر الاتفاق النهائي بين النقابات التعليمية الخمس الأكثر تمثيلية من جهة، والوزراء أعضاء اللجنة الحكومية المعنية من جهة ثانية.

كل هذا الآن يستدعي منا تعميق النقاش حوله، حول مصدر الاحتجاجات ومداخلها ومساراتها وتأثيراتها ومخرجاتها… خصوصا أننا كنا طيلة عشرة أسابيع مع لاعب واحد استأثر على الملعب وفرض أسلوب لعبه على الساحة، بشكل غير متوقع وغير ممأسس ولا مؤطر، ولو أنه كان منظما بحكم درجة الانضباط العالية للمقررات التي ترد عبر بلاغات آخر الليل التي تنتج عقب اجتماعات عن بعد بين من نصبوا أنفسهم قادة التنسيقيات.

ولعل ظهور التنسيقيات الفئوية ليس جديدا في منظومة الاحتجاجات ببلادنا، حيث اعتاد المغرب على هذا الأسلوب الاحتجاجي وآلفت ساحة شارع محمد الخامس وقوف العديد من التنسيقيات التي تحمل مطالب معينة، وغالبا ما كانت تعبر عن احتجاجها الميداني في نفس الوقت الذي تسعى فيها إلى إقناع النقابات والجمعيات الحقوقية بتبني ملفاتها. فظهور التنسيقيات لم يكن يلغي أهمية النقابات والجمعيات الحقوقية والأحزاب السياسية وأدوارها الترافعية في الدفاع عن مصالح جميع الفئات المجتمعية.

هذا لم يتم لمسه في طريقة تدبير التنسيقيات التعليمية لحراكها الاحتجاجي، حيث أرادت ومن ورائها من يحركونها القفز على كل ما هو موجود، من وسائط ترافعية… بل، وصل بها الحد إلى تخوين الجميع، أحزاب ونقابات، حكومة ومؤسسات، أغلبية ومعارضة… وطفت إلى السطح حمولة عدمية لم نرى لها مثيل إلا في نشاطات الحساسيات السياسية المنتمية إلى اليسار الجذري، والتي تعرضت أفكارها منذ أزيد من عقدين للأفول، وراجع الكثير من قادتها أنفسهم، وبدلوا استراتيجية عملهم وزاوية نظرهم اتجاه الدولة ومؤسساتها.

لا ينكر إلا جاحد أن هذا الحراك الاحتجاجي أحرج المسؤولين في الدولة وحقق الكثير من المكاسب للشغيلة التعليمية، ولو أن الثمن كان باهضا على الأسر الفقيرة والمتوسطة، على الشريحة التلامذية، على المدرسة العمومية، وعلى البلاد برمتها، حيث تأثرت صورة المملكة لدى الرأي العام الإقليمي والدولي، بشكل استغلته بعض القنوات الدولية للمس بصورة المغرب والتشكيك في قدراته على استضافة التظاهرات الدولية بما فيها كأس العالم لسنة 2030.

والحالة هاته، أصبحنا أمام مشكلة كبيرة، اتفقت فيها المؤسسة التنفيذية مع الوسائط الاجتماعية ذات التمثيلية، على مجموعة من المكتسبات، متضمنة في محضر رسمي. فيما لا زالت الإضرابات قائمة، والاحتجاجات مستمرة، ولا زالت أغلب المدارس معطلة، ولا زال أغلب تلاميذ المدارس العمومية تائهون ضائعون، فما العمل؟

في نظري الشخصي، أن ما يقع ومهما كانت مبرراته ودواعيه، فهو يضرب في العمق قيمة الدولة ومؤسساتها ويهدم النقابات كوسائط اجتماعية كفلت لها التشريعات الدولية والوطنية الترافع وتمثيل الشغيلة، وأن التنسيقيات التي تحتج اليوم يجب أن تنخرط في القواعد المسلم بها، وأن تسعى إلى العمل من داخل النقابات أنفسها، أو تؤسس نقابات جديدة، على أساس تنظيم نفسها والاستعداد للاستحقاقات الانتخابية المقبلة حتى تتمكن من تمثيل منخرطيها بشكل قانوني يسمح لها للتفاوض والتمثيل في مجلس المستشارين وفي بقية المؤسسات الرسمية… أما ما تقوم به اليوم، فلن يحقق أكثر مما تحقق، خصوصا وأن الدولة المغربية في مسارها الحافل لم يسبق لها أن خضعت للابتزاز، أو سمحت بالاستهتار بمؤسساتها، فالضغط وإن كان مطلوبا، فالكثير منه يحقق الانفجار.

في جميع دول المعمور، نرى الشعوب تفتخر بوطنيتها وبمؤسسات دولتها، إلا في بلادنا، نجد بعض الناس ما أن يحدث شيء لا يعجبهم، يعمدون إلى السب والقذف في حق الدولة والوطن، وما شعار من قبيل (واهيا واهيا واهيا… هاد الدولة فاسدة) إلا شعار يعبر عن جذرية المواقف، وأن الأمر لم يعد متعلقا بنظام أساس أو بتعويضات إضافية، بقدر ما تحركه أيادي لا تريد الخير لهذه البلاد، ويقض مضجعها الاتفاق الذي أجرته النقابات مع الحكومة، ويقلق راحتها أن يعم الأمن والسلام والطمأنينة أرجاء البلاد، فتستحضر نظرية المؤامرة في كل تشريع أو مبادرة تقوم بها الحكومة أو البرلمان أو مؤسسة تمثيلية.

لقد قطعت بلادنا أشواطا مهما على درب دمقرطة الدولة ومؤسساتها، وحمل دستور 2011 الكثير من المكتسبات والمقتضيات الجديدة التي تحقق الكثير منها، سواء تعلق الأمر بفصل السلط وتوازنها، أو بمبادئ ربط المسؤولية بالمحاسبة والمساواة… كما دشن الملك محمد السادس مجموعة من المشاريع والمخططات الكبرى التي ساهمت في نوع من التحول نحو الديمقراطية والتنمية والرقي الاجتماعي للبلاد، التي ارتقت مراتب مهمة في سلم الاقتصاد العالمي، وأصبح مسار التنمية فيها يضاهي العديد من الدول المتقدمة، كما أصبحت تحظى باحترام الكثير من كبريات دول العالم. فلماذا يأخذ البعض بكف ويستمر بالقذف بالحجر بالكف الأخرى؟

قد يقول قائل بأن هذا الخطاب ينتمي إلى خطب الموالاة وتعياشيت، وهذا قول مردود عليه، ما دامت الحقيقة ترتفع على النكران في جميع مواقعها. وما دام كبار الساسة الوطنيون في بلادنا أقروا بأنفسهم بأن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس، وبأن مغرب الطاقات المتجددة والحماية الاجتماعية وحرية التعبير وطفرة المجتمع المدني ليس هو المغرب الذي كان موشوما بالخوف والترهيب بالسجون والرصاص.

ولعل أكبر دليل على التقدم الحاصل في بلادنا على أكثر من مستوى، هو احترام ممارسة المحتجين أنفسهم لأشكالهم الاحتجاجية، حيث رأينا كيف وفرت لهم مختلف القوات الأمنية الشروط المناسبة للخروج في مسيراتهم على طول شارع محمد الخامس بالرباط، على عكس ما كان في عهد وزير الداخلية المخلوع ادريس البصري سنوات الثمانينات والتسعينيات، فإلى متى الاحتجاج والإضراب ما دام الاتفاق موقعا والمكتسبات ثابتة؟

إن حماس المحتجين اليوم تنقصه الحكمة وبعد النظر، خصوصا وأن الاحتجاجات غير مؤطرة، والتنسيقيات نفسها متشرذمة وتتزايد على بعضها البعض بالتجذر في النضال وفي رفع السقف، وهنا تظهر أهمية العمل النقابي المؤسساتي، الذي يؤمن بالحوار والتفاوض وبالأخذ والرد، فالقاعدة الفقهية المعروفة تقول بأن ما لا يؤخذ كله لا يترك جله، وبالتالي كان حريا بالمحتجين الاعتراف بأن ما تم تحقيقه من مكتسبات في إطار هذه السنة، لم يعرف له القطاع مثيل منذ سنوات عدة، وكان حريا بهم ترصيد هذ المكتسبات والاستمرار في المطالبة بالأخرى، ولكن بشكل مؤسساتي وبشكل لا يمنع من أداء الواجب المهني ولا يمس التلاميذ بسوء، فتلاميذ اليوم هم مستقبل الغد، وترتيب الأولويات لا يجب أن يكون على حسابهم، فهم ليسوا حائطا قصيرا وليسوا أكباش فداء، نقدمهم قرابين ونقفز عليهم مقابل تحقيق متطلباتنا كاملة.

أهمية العمل النقابي الرزين والرصين تكمن كذلك في استحضار القاعدة الذهبية “شوية من الحنة وشوية من رطوبة اليدين”، وهي قاعدة ذات حمولة وطنية كبرى، تتطلب النضال والدفاع عن المطالب بالقدر الذي تستحضر فيه المصلحة الفضلى للبلاد التي تكمن في المصلحة الفضلى لفلذات أكبادنا، تلاميذ المغرب ومستقبله. فما ضاع حق من ورائه طالب، ولكن حتما سيضيع جيل من التلاميذ من ورائهم أستاذ دوما مضرب

مغرب العالم: جريدة إلكترونية بلجيكية -مغربية مستقلة