طوفان الأقصى وتعدّد صور النصر

بقلم : الصحافي أمين بوشعيب/ إيطاليا

يحدثنا القرآن الكريم عن أبرز صفات إخوة يوسف عليه السلام، فيجملها في الحسد والحقد والمكر والخداع والكذب، وكلها صفات مذمومة، فقد حسدوا أخاهم يوسف عليه السلام على ما ألقى الله من محبة في قلب أبيه يعقوب عليه السلام، ثم بعد ذلك حقدوا عليه وكادوا له كيدا عظيما، سعيا إلى إهلاكه والتخلص منه، فيخلص لهم وجه أبيهم ويستأثروا به، لأنهم -كما زعموا- عصبة، وهم أولى بحب أبيهم وميراثه من يوسف.                                                                                                                                             ولما وضعوا الخطة لينفذوا ما عزموا عليه، نجحوا بإقناع أبيهم باستعمال الحيلة والكذب؛ وذلك بادعاء أخذ يوسف معهم للعب والتنزه. لكنهم بدل ذلك ألقوه في غيابة الجب، وعادوا لأبيهم، وقد اتفقوا على اختلاق قصة مزورة تدفع الشبهات عنهم، فقالوا لأبيهم إن الذئب قد أكل يوسف وهم في غفلة عنه.                                                                                                                                                       
إن مكر إخوة يوسف به، والتآمر عليه كان بنيّة مسبقة، تتفق مع الطبائع البشرية المريضة، إذا تحكّم فيها الهوى فكرت ودبرت للكيد والانتقام، وبنوا على ذلك آمالا وأحلاما تدل على سفه عقولهم وفساد رأيهم وقسوة قلوبهم. لكن الله سبحانه وتعالى كتب ليوسف النجاة بإنقاذه، لينتهي به المطاف في قصر عزيز مصر وخادما لزوجته، ثم بعد ذلك أصبح من خاصة الملك ومن كبار وجهاء الدولة وأعيانها، بل أصبح هو القائم على ممتلكات الدولة وعلى خزائن جبايات الأرض وغلالها.                                                                                                     
فالله سبحانه وتعالى ضرب لنا فِي قصة يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَات بينات بثها سبحانه في هذا الكون تبقى على مر العصور، نستلهم منها الدروس بقصد الاعتبار والاتعاظ، في حين نجد أن أكثر الناس يمرون على هذه الآيات، وهم عنها غافلون، أو معرضون، غير مبالين بما تحمله من دلالات وعبر.                                                              
لا أريد أن أقوم بإسقاط على ما تعيشه غزة من أحداث، ولكن لنتأمل ونتدبر.                                                                
منذ أكثر من سبعين سنة تآمر اليهود مع بعض الدول الغربية على الاستيلاء على أرض فلسطين فقاموا على مدى سنوات طويلة بقتل بعض رجالها ونسائها وأطفالها، وتغييب البعض الآخر بالتهجير والأسر في السجون.  هدموا البيوت والمساكن، ودمروا البنية التحتية وقطعوا عمن تبقى الماء والطعام والدواء. فعل الصهاينة كل هذا لكي يخلو لهم الجو لتحقيق المشروع الذي وضع آباؤهم المؤسسون لبناته الأولى، ومن ثم تحقيق إقامة مملكة داوود وسليمان. ويشيّدوا فوقها دولة “ديمقراطية” ذات شأن كبير على مستوى العلاقات الدولية، ولا يتحقق ذلك إلا إذا تحقق مشروع إسرائيل الكبرى وأصبحت هي الدولة المهيمنة في الشرق الأوسط، فيأتي من تبقى من حكام العرب خاضعين ومستسلمين يقدمون فروض الطاعة والولاء. ولقد استخدم قادة إسرائيل جميع الوسائل بما في ذلك المكر والخداع والكذب والتضليل والقتل.

إذا عدنا إلى سورة يوسف، نجد أن القرآن يحدثنا عن أسباب انتصار يوسف على إخوته، ليعلمنا ان التوكل على الله وحسن الظن به من الأسباب القوية في النصر، فالله سبحانه وتعالى هو الذي حفظ يوسف عليه السلام، فلم يتنازل ولم يستعجل، ولم ييأس وبقي صامدا فكان من الطّبيعيّ أن يتحقّق له النّجاح المأمول، لأن هذه الأدواء لو دخلت على النّفس أحبطتها، وأثقلها ومن ثم تكون الهزيمة.

ومن الدروس التي نتعلمها في هاته السّورة هي الثبات على الحق، في السراء والضراء، وكذلك نجد في هذه السّورة قواعد وأصول التخطيط، وبُعد النظر، الّذي هو أساس قيام الدول. ونجد فيها كذلك بيان عاقبة المكر والخداع والكذب، حيث لا تكون سوى الخسران المبين، ونجد أيضا بيان عاقبة الصبر التي هي الفوز المبين. فإخوة يوسف عليه السلام مكروا به من أجل أن يخلو لهم وجه أبيهم ويستفردوا به، فماذا كانت النتيجة؟ كانت عكس ما تمنوا وخططوا. 


وكأني بأهل غزةَ قد استوعبوا دروس هذه السورة الكريمة المتضمَّنة في كتاب الله، وكأني برجال المقاومة الفلسطينية لم ينشروا عبثا مقطع الفيديو، الذي يظهر التخطيط ل “كمين الأبرار” الذي حدث في منطقة الزنة يوم السابع والعشرين من رمضان الماضي، إلى جانب كتاب “رسائل من القرآن” للكاتب الفلسطيني أدهم شرقاوي، وهو الكتاب الذي يتضمن مجموعة من الحكم والنصائح والإرشادات من القرآن الكريم. وهي رسالة مباشرة وواضحة على أنهم استلهام مقوّمات النّصر وشروطه وأسبابه ومراحله وأهدافه ومعوقاته ومقوماته من القرآن الكريم.  ولعل يقول: أين النصر وهذي غزة قد دُمرت عن آخرها ومات من أهلها الآلاف؟                                                                                                                                    
هناك من الناس من يجعل معنى النصر قاصرا على صورة معينة معهودة لهم. ولكن للنصر صور شتى، وقد يلتبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة. فيوسف عليه السلام وقد أُدخل السجن لأنه رفض الخضوع لامرأة العزيز. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟   


ما من شك أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في السجن (قال رب السجن أحب إلي مما يدعوني إليه) لأن نفسه لم تهزمه بالإغراءات التي قدمت له. وانتصر مرة أخرى عندما ظهرت براءته أمام الجميع، فقبل دعوة الملك، وذهب لمقابلته وهو مرفوع الرأس، فعرض عليه العمل عنده وترك له حرية اختيار الوظيفة التي يريدها.

عجز إسرائيل والتحالف الغربي المساند لها سياسيًا وعسكريًا، عن تحقيق أيّ من الأهداف المعلنة من الحرب على غزة، يعتبر صورة من صور النصر. وخروج الشعوب بالآلاف في كل بقاع العالم للتظاهر تضامنا مع الشعب الفلسطيني، صورة من صور النصر: فلأول مرة منذ ما يزيد على سبعة عقود، نرى كيف انحاز الرأي الغربي للحق الفلسطيني بكل وضوح.

وعندما يقف بايدن على باب السنوار ذليلا يستجدي المفاوضات مع فصائل المقاومة الفلسطينية، فهذه صورة من أروع صور النصر.             وكسر هيبة دولة الاحتلال ومؤسساتها العسكرية والأمنية بشكل غير مسبوق، وكسر أسطورة الجيش الذي لا يقهر، صورة من صور النصر.  وإيقاف قطار التطبيع الذي كان يسير بسرعة جنونية نحو تطبيع عربي شبه كامل مع الاحتلال، من أجل تحقيق صفقة القرن، مع تصفية القضية الفلسطينية، يعتبر صورة من صور النصر. وإعادة قضية فلسطين إلى مكانتها المحورية في العالم، واعتراف بعض الدول بالدولة الفلسطينية صورة من صور النصر.

وحين تصبح الولايات المتحدة أكبر دولة في الغرب تسجَّل فيها أكبر معدلات اعتناق للإسلام، بسبب صمود الفلسطينيين ونضالهم من أجل العدل والحرية، فهو نصر كبير ليس لأهل فلسطين فقط وإنما هو لجميع المسلمين.


هذه بعض صور النصر التي حققها طوفان الأقصى ولا يزال الحبل على الغارب، حتى يتحقق النصر الأكبر الموعود بزوال إسرائيل وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر.

فلاش: لعل من التحولات الكبرى التي أحدثها طوفان الأقصى، هو التحول الكبير الذي حدث في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في الجامعات، وهذا ما أشار إليه الكاتب اليهودي سيلفان سيبيل في مقال له نشره في موقع أوريان 21 حيث قال فيه إن الطلاب الأميركيين حتى داخل المجتمع اليهودي يقومون بالتعبئة بشكل جماعي لم يسمع أحد بمثله منذ السبعينيات رغم الاتهامات بمعاداة السامية والقمع، بالمطالبة بوقف تمويل جامعاتهم للبحث العلمي الذي يستغله تجار السلاح الذين يقدمون لإسرائيل آخر أنواع الأسلحة الفتاكة لقتل الفلسطينيين. هذه صورة أخرى من صور النصر التي لا يجب إغفالها.

مغرب العالم: جريدة إلكترونية بلجيكية -مغربية مستقلة