طوفان الأقصى ونهاية المشروع الصهيوني

بقلم: الصحافي أمين بوشعيب /إيطاليا

بعد قرون من الشتات عاشها اليهود في أرض الله الواسعة، سعت الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، إلى إعادة توحيد الشعب اليهودي وتأسيس وطن قومي له، فقامت بتشجيع هجرة اليهود الجماعية من كل بقاع العالم إلى أرض فلسطين، أرضهم التاريخية بحسب زعمهم.
وكذلك فعلت القوى الاستعمارية التي باركت هذه الدعوة الصهيونية، بناء على وعد كانت قد أصدرته بريطانيا سنة 1917 يدعم إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، هذا الوعد يعتبره الحاخام الأمريكي وايس العضو البارز في المنظمة المعروفة عالميا بحركة “ناطوري كارتا” التي تناهض الصهيونية: “وثيقة مهمة حقا، خصصت فيها بريطانيا الحق السياسي لتقرير المصير الوطني لليهود وحرمت منه الفلسطينيين، هذا مع العلم أن اليهود شكلوا حينها 10% فقط من السكان، في حين شكل العرب 90%، وكان اليهود يمتلكون 2% فقط من الأرض، ومع ذلك مكّن التدخل البريطاني الحركة الصهيونية من الشروع في الاستيلاء المنهجي على فلسطين وهو ما زال مستمرا إلى اليوم، لذلك فالانتداب البريطاني على فلسطين الممتد من عام 1922 إلى عام 1948 هو الذي ساعد ومهّد للحركة الصهيونية سرقة أرض فلسطين”
بعد ذلك استطاعت عصابات الهاغانا التي تتوفر على أربعين ألف عنصر في قوات الجيش والأمن التابعة لسلطات الانتداب، من الاستيلاء المنهجي على فلسطين وترسيخ نفسها، وإعلان تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، وهو ما يُعتبر انتصارا لفكرة الدولة اليهودية كما بشّر بها هيرتزل الصهيوني. لكن مع تصاعد الصراعات والتوترات في المنطقة، تصاعدت الجهود الصهيونية للتوطين وتعزيز الوجود اليهودي في فلسطين. وفي عام 1947، اتخذت الأمم المتحدة قراراً بتقسيم فلسطين إلى دولتين: دولة يهودية ودولة فلسطينية. وفي عام 1948 أعلنت إسرائيل استقلالها وتأسيس “دولة ذات سيادة” لكن الحركة الصهيونية بدأت تنزع بشكل مضطرد إلى مزيد من العنصرية المتطرفة التي تطورت مع توالي السنين، إذ من مطلب جمع اليهود في فلسطين إلى طرد العرب منها وإقامة دولة يهودية خالصة على كل أرض فلسطين، فأصبحت الحركة الصهيونية بذلك كيانا استيطانيا، يقتل الفلسطينيين ويستحوذ على أراضيهم.
وصل المشروع الصهيونية ذروته مع صعود الولايات المتحدة على السطح كقوة عظمى، إذ قدمت للكيان الصهيوني الغاصب كل أشكال الدعم من مال وسلاح وغيرهما، لارتكاب جرائمه بحق العرب والفلسطينيين، وفي سياق ذلك يستدعي قادة هذا الجيش قاموسا دينيا يروّجون فيه لنصوص من كتابهم المقدّس “بأنهم ينضمّون إلى سلسلة من الأبطال اليهود، التي بدأت قبل 3000 عام مع يشوع النبيّ” وبأن هذه السلسلة مستمرّة من خلال أبطال عام 1948، وحرب الستة أيام، وحرب أكتوبر 73، وجميع الحروب الأخرى التي خاضوها، فهم الجنود البواسل الذين يشكلون “الجيش الذي لا يقهر” ولديهم هدف أسمى واحد هو هزيمة العدو القاتل تمامًا، وضمان استمرار وجود الشعب اليهودي على أرض فلسطين.
ومنذ ذلك الحين ظلّ هذا الجيش الهمجيّ يمارس جرائمه دون رادع من دين، أو ضمير أو أخلاق أو قانون دولي. هكذا إذن تقدّم إسرائيل نفسها- سواء من خلال خطابَيها الديني والسياسي، أو من خلال ممارساتها الفعلية في الحروب، تقدّم نموذجًا فجًّا للتوحّش الذي يدّعي – في السياق اليهودي – استعادة “قيم التوراة”، ويزعم في السياق الدولي، أنه لا يخالف القانون الدولي الإنساني.


فجاء طوفان الأقصى لينسف كل ما بناه الكيان الإسرائيلي الغاصب منذ عقود، وينسف معه الاستراتيجية الأمنية التي تمّ تهشيمها بصفة نهائية، فلا قوة الردع نفعتهم، ولا سياسة الأسوار حمتهم، ولا دعاية “الجيش الذي لا يقهر” نصرتهم، ولولا الرعاية التامة والدعم غير المحدود من أمريكا وحلفائها، لما أمكنه إعادة توازنه وإعلان الحرب على غزة، التي هدفها الوحيد هو الانتقام ومحاولة رد الاعتبار بسياسات العقاب الجماعي، حيث منع عن أهلها القوت والماء وقطع عنهم الكهرباء الأنترنيت، وشرع في تقتيل وتشريد العزل والأبرياء من النساء والأطفال، ولم تستثنِ سياسة التدمير الشامل أي مبنى ولا مسجد ولا كنيسة ولا مستشفى ولا مدرسة ولا مؤسسة، وحتى الحيوانات لم تكن في منأى عن القصف والتدمير، في مشهد همجي لم يعرف له العالم الحديث مثيلا.
جاء طوفان الأقصى ليُعيد الأمور إلى نصابها، بإحياء القضية الفلسطينية من جديد، وإعادتها إلى الواجهة بعد أن دخلت في غياهب النسيان. جاء طوفان الأقصى ليهشّم أسطورة “الجيش الذي لا يقهر” ويفضح الفشل الذريع لأجهزة الاستخبارات الصهيونية، في توقعات مخططات المقاومة الفلسطينية، وهو ما اعتبره المحللون “ضربة قاسية بالمعنى الاستخباراتي والعسكري والسياسي التي شكلها هجوم المقاومة المفاجئ على غلاف غزة ومستوطناتها وثكناتها يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
طوفان الأقصى جاء ليزيح عن الأنظمة العربية ورقة التوت الأخيرة، وخاصة تلك المطبّعة مع إسرائيل، فهؤلاء الحكام الذين ادّعوا نجاح خيارهم التطبيعي تحت مسمى السلام، أبانوا على أنهم مع مجرمي الحرب الصهاينة، وأنهم شركاء لهم في جرائمهم بحق الفلسطينيين الذين يتعرضون لإجرام غير مسبوق، وأن الصهاينة لا يقيمون لهم أي اعتبار.
طوفان الأقصى جاء ليقول للعالم أن مجلس الأمن والأمم المتحدة ما هما إلا ألعوبة في يد الولايات المتحدة وحلفائها تتحكم فيها كيف تشاء. طوفان الأقصى جاء ليعرّي عن سوءات العالم الغربي، وأبان على أنّ القيم الأخلاقية والمبادئ السياسية والديمقراطية وحقوق الإنسان والحيوان والنباتات التي يتغنّى بها الغرب ما هي إلا ادّعاءات وشعارات جوفاء للاستهلاك فقط.
“ولأنه طوفان فعلاً، فقد أتى على جلّ ما بناه الغرب منذ عقود، وما ظهر من استقرار لسياساتهم في المنطقة، وما ظنوا أنهم حققوه تحت مسميات مختلفة؛ مرة تحت عنوان “السلام” ومرة باسم “التطبيع” وأخرى باسم “الإبراهيمية”، لقد أصاب طوفان الأقصى غرورهم واعتدادهم بقوّتهم وعبقريتهم في مقتل”
فلاش: قال وزير الداخلية الإسرائيلي السابق الحاخام “أرييه درعي” في إحدى خرجاته الإعلامية: “حكّام العرب يصلحون للركوب فقط لأنّهم دوابّ موسى، و شراء سرج جديد وعلف جيد للدابة من واجب صاحبها ” و أردف قائلا ” إن المسلمين سيبقون عدواً لليهود ما دام القرآن كتابهم، والعرب يجب أن يكونوا عبيداً لليهود، يستحقون العذاب”
هذه رسالة واضحة للحكام المطبعين، وأن ما يسمّى سلاما مع إسرائيل ما هي إلا أوهام. رسالة تبيّن كيف ينظر المسؤولون الإسرائيليون إلى هؤلاء المطبعين المتخاذلين، فهل يجرؤ أحدهم على الرد، أم أنهم لا يستأسدون إلا على شعوبهم؟

مغرب العالم: جريدة إلكترونية بلجيكية -مغربية مستقلة