في الحاجة للانتباه إلى الطّلب الاجتماعي

دكتور عادل بنحمزة

في أحدث تقرير للبنك الدولي صادر في خريف هذه السنة تحت عنوان “رصد الوضع الاقتصادي – من القدرة على الصمود إلى الرخاء المشترك”، أكد خبراء البنك أن المغرب نجح في تخطي الصدمات الاقتصادية المتداخلة، إذ ارتفع النمو الاقتصادي إلى 2.9% في النصف الأول من عام 2023، مدفوعاً أساساً بالخدمات وصافي الصادرات، مع تسجيل انخفاض في معدلات التضخم بمقدار النصف بين شباط (فبراير) وآب (أغسطس) 2023، غير أن الخبراء يؤكدون في التقرير نفسه أن تضخم أسعار المواد الغذائية لا يزال مرتفعاً، رغم انخفاض أسعار السلع الأساسية وأثره في تضييق عجز الحساب الجاري ولو بصفة موقتة.

كما توقع خبراء البنك الدولي أن تؤدي الاستجابة للأزمات الأخيرة، وبخاصة جائحة كورونا والجفاف وزلزال الأطلس الكبير، بالإضافة إلى الإصلاحات الجارية في أنظمة الصحة والحماية الاجتماعية، إلى فرض ضغوط على المالية العامة، مع أن الحكومة المغربية تمكنت من خفض عجز الموازنة تدريجياً. ومن العلامات الأخرى التي تشير إلى صمود المغرب الخارجي، بحسب تقرير البنك الدولي، نجد الطلب الخارجي القوي (والمتزايد) على السلع والخدمات التي تنتج في المغرب، وذلك رغم تباطؤ الاقتصاد الدولي؛ بالإضافة إلى قوة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، في ظل ظهور مختلف المجالات الصناعية الحديثة المرتبطة ارتباطاً جيداً بسلاسل القيمة العالمية، والتي تغذيها جزئياً الاستثمارات الاستراتيجية؛ مثل بناء ميناء طنجة المتوسطي، وقدرة المغرب على إمكان الوصول إلى التمويل الدولي رغم ما تعرفه الأوضاع المالية العالمية من تشدد مستمر، غير أن الخبراء يقرون بتأثيرات واضحة لمختلف الصدمات التي واجهها المغرب على الرفاهية المحلية. 

في سياق صدور تقرير البنك الدولي، يعرف المغرب تصاعداً لافتاً لأشكال من الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي، وبخاصة الإضراب الطويل جداً للمدرسين الذي يهدد بسنة بيضاء تهم أكثر من تسعة ملايين تلميذة وتلميذ، تضاف إلى ذلك تحركات جنينية في قطاعات أخرى. هذه الاحتجاجات بلا شك تمثل فرصة لبعض التيارات السياسية التي لن تتردد في استثمارها في إطار تصفية حسابات مع الحكومة ومكوناتها السياسية، وقد يمتد الأمر إلى أبعد من ذلك، ما دام الاستثمار في الأزمات أمراً سهلاً بالنسبة إلى كل خطاب معارض، بخاصة في ظل أزمة معارضة واضحة منذ بداية ولاية الحكومة الحالية، ما جعل كثيراً من الاحتجاجات تنظم بعيداً من الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، وهو ما يكشف عن حالة فراغ مهولة بخصوص مؤسسات الوساطة ويجعل الحكومة في مواجهة مباشرة مع الشارع.

لكن بدل الانشغال بمن يستثمر في الأزمة، علينا البحث في ثناياها ومسبباتها، ولعل السبب المباشر لما يحدث اليوم ومنذ سنتين بالتحديد في الحقيقة هو حجم التضخم غير المسبوق الذي تعرفه المواد الغذائية، بما فيها الخضر والفواكه التي يعد المغرب مصدراً لها، فقد مسّ التضخم بوضوح القدرة الشرائية للأغلبية الساحقة من فئات المجتمع المختلفة، وفي صلب هذا الواقع نجد عدم انعكاس الأرقام الكمية والكيفية للتطور الاقتصادي والبنية التحتية على الحياة اليومية للمغاربة. وهو ما يجعل كثيرين يتساءلون عن حجم التوازن الذي يتم بناؤه بين طموح المغرب كدولة في نهوض حضاري واقتصادي تاريخي يموقع البلاد في المستقبل، وضرورة الانتباه إلى الضغوط التي تتعرض لها الأسر في ما يتعلق بقدرتها على الاستهلاك، وبالنتيجة تغذية الطلب الداخلي الذي شكل دائماً عامل استقرار. وقد نبّه تقرير البنك الدولي إلى أن مؤشرات ثقة الأسر مستمرة في التدهور، ووصلت إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، إذ أعلن 78.3% من الأفراد الذين شملهم استطلاع البنك في الربع الثاني من عام 2023، أن نوعية حياتهم قد تدهورت خلال العام الماضي. ولم يعد نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بعد إلى مستويات ما قبل جائحة كورونا، كما أن نصيب الفرد من الإنفاق الاستهلاكي النهائي هو تقريباً ما كان عليه في عام 2019. ويعود التقرير للتأكيد أن الإحصاءات الإجمالية تخفي حقيقة أن تضخم أسعار الغذاء يؤثر تأثيراً غير متناسب على الفقراء والفئات الأكثر احتياجاً، ويمكن أن أضيف أن الأمر تجاوز هذه الفئات إلى الطبقة الوسطى، وهو ما يظهر بوضوح في احتجاجات المدرسين.

إن هذا الواقع يدفعنا إلى التذكير بأن الاقتصاد يرتبط بالحياة اليومية للمواطنات والمواطنين وليس مجرد أرقام وبيانات تقنية من دون روح، لذلك فإن قياس الأثر الاقتصادي معياره الحقيقي هو المعيش اليومي للمواطن، هذا العيش لا يمكن أن يتحقق سوى عبر الشغل، لذلك يتم قياس جدوى أي استثمار بحجم مناصب الشغل التي يخلقها. مع الأسف التحولات التي يعرفها اقتصاد المعرفة وما يواكبه من أتمتة في مختلف مجالات الإنتاج عبر الدخول المكثف للروبوتات، بدأت تقلب معادلة الاستثمار والتشغيل، بحيث لا يعني الاستثمار ولا حتى النمو بصورة مباشرة وآلية مناصب شغل جديدة. صحيح أن كثيراً من بلدان منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط لم تصل هذا المستوى بعد، لكن المغرب في هذه الوضعية بحكم انخراطه الكامل والتام في الاقتصاد العالمي بميزاته وأعطابه، بخاصة ما يحققه في صناعة السيارات والطائرات والطاقات المتجددة، وما تعرفه هذه القطاعات من حضور مكثف للتكنلوجيات الحديثة، بخاصة في الجانب المتعلق بتقليص حضور العنصر البشري.

هذه المعادلة تصح أيضاً عند مقاربة تطور مناخ الأعمال في المغرب بما تم تحقيقه على مستوى معدلات النمو، إذ يفصح الواقع عن حقيقة أن تحسين ترتيب المغرب في العقد الأخير في مؤشر مناخ الأعمال Doing Business الذي يصدره البنك الدولي، لم يواكبه تحسن في معدلات النمو، بل على العكس من ذلك وبما يمثل مفارقة، فعندما كانت مراكز المغرب فوق المئة دولياً في مناخ الأعمال كان الاقتصاد الوطني يحقق معدلات نمو غير مسبوقة ولا لاحقة. بعض الأمثلة توضح الصورة أكثر، فخلال الفترة من 1998 إلى 2008، وقد كان المغرب خلالها خارج أفضل 100 دولة عالمياً على مستوى “ممارسة الأعمال”، نجد أن معدلات النمو كانت تراوح بين 3 و7 في المئة، على النقيض من ذلك وعندما بلغ ترتيب المغرب المرتبة 53 عالمياً في مناخ الأعمال، فإن ما تحقق من معدلات نمو في الفترة من 2009 إلى 2019 كان ضعيفاً على مستوى التشغيل. ونجد أن المغرب سنة 2012 في عهد حكومة حزب العدالة والتنمية، لم يستطع تحقيق أكثر من 1000 منصب شغل صاف، وفي سنة 2016 لم يستطع تجاوز عتبة 1.6 في المئة كمعدل للنمو، وبخصوص ذلك كشف تقرير البنك الدولي أن المغرب إذا أراد تعزيز الرخاء فهو بحاجة إلى إصلاحات إضافية للاستفادة من صموده الخارجي، مذكراً بأن معدل النمو المحتمل للاقتصاد المغربي انخفض انخفاضاً ملحوظاً منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ويقدره في سنة 2023 بنسبة 3.6% وهي نسبة يكشف خبراء البنك الدولي أنها أقل من المتوسط في اقتصادات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية. بل إن التقرير يكشف أن من الواضح أن تحقيق معدل النمو هذا على مدى السنوات المقبلة لن يكون كافياً لتحقيق الأهداف الطموحة التي حددها النموذج التنموي الجديد الذي هو قيد التنزيل في المغرب، رغم أن السلطات المغربية بحسب واضعي التقرير تدرك حجم التحدي، ولكسبه أطلقت إصلاحات طموحة لتحسين رأس المال البشري، وتحفيز الاستثمارات الخاصة.

ومع ذلك، قد تفشل هذه الإصلاحات – يقول خبراء البنك الدولي – في تحقيق الانطلاقة الاقتصادية المرجوة، ما لم يتم تخفيف القيود الجزئية الحاسمة الأخرى أمام النمو. تذكرنا هذه الخلاصة بما سبق وأكده الملك محمد السادس في خطاب العرش عندما قال: “وقد عبرت العديد من المؤسسات والشركات العالمية عن رغبتها في الاستثمار والاستقرار في المغرب. وبقدر ما يبعث ذلك على الارتياح، للثقة التي يحظى بها المغرب، فإن القيود التي تفرضها بعض القوانين الوطنية، والخوف والتردد الذي يسيطر على عقلية بعض المسؤولين؛ كلها عوامل تجعل المغرب أحياناً في وضعية انغلاق وتحفظ سلبي. فالذين يرفضون انفتاح بعض القطاعات التي لا أريد تسميتها هنا، بدعوى أن ذلك يتسبب في فقدان مناصب الشغل، فإنهم لا يفكرون في المغاربة، بل يخافون على مصالحهم الشخصية”. 

فهل ينجح المغرب في تفكيك المصالح الشخصية والانتباه بما يكفي لبناء التوازن اللازم بين الطموحات المشروعة والطلب الاجتماعي الذي لا يمكن أن ينتظر؟

مغرب العالم: جريدة إلكترونية بلجيكية -مغربية مستقلة