دكتور عادل بنحمزة
خلال السنوات القليلة الماضية تواترت معلومات وأخبار مؤكدة وموثقة، سواء من طرف بعثة الأمم المتحدة للصحراء أم من طرف المغرب، عن انتشار مسلحين تابعين لميليشيات “البوليساريو” قرب المعبر الحدودي الكركرات، وهذا ما أكده الأمين العام للأمم المتحدة في تقرير قدمه إلى مجلس الأمن الدولي خلال أزمة المعبر الذي يربط بين المغرب وموريتانيا، وقد تم قبل سنوات نشر صور لقادة من الجبهة مع تجهيزات عسكرية خفيفة على ساحل المحيط الأطلسي.
كل هذه المعطيات تؤكد أن جبهة “البوليساريو” كانت تراهن كثيراً على الجانب الدعائي في تحركاتها في المنطقة العازلة، لأن مهمة قطع الإمدادات وعزل تلك القوات في منطقة الكركرات كانت دائماً عملية بسيطة من الناحية العسكرية بالنسبة إلى القوات المسلحة الملكية، وهو ما قامت به فرق الهندسة التابعة لها في ساعات قليلة عندما تقرر ذلك، لكن الأمر إذا كان لا يشكل تحدياً عسكرياً أو أمنياً، فإنه يشكل تحدياً سياسياً وإعلامياً، لذلك واجهه المغرب بحزم وذكاء، بخاصة أن “البوليساريو” هددت أكثر من مرة بفكرة نقل مخيمات تيندوف إلى المنطقة العازلة التي تعتبرها وتقدمها دعائياً للعالم على أنها أراض محررة لكنها لم تستطع تنفيذ ذلك أبداً، من جهة، لأن الجبهة تستعمل مخيمات المحتجزين في تيندوف للدعاية وللإتجار بالمساعدات الإنسانية، ومن جهة أخرى لأن المنطقة عملياً تدخل ضمن السيادة المغربية وقد تركها الجيش المغربي خالية حتى يتمكن من ملاحقة ميليشيات “البوليساريو” من دون الحاجة إلى التوغل في الأراضي الموريتانية، وذلك وفقاً لاتفاقية وقف إطلاق النار، والأمر الثالث هو أن النظام الجزائري يرفض أن يتخلى عن سيطرته المباشرة على المخيمات وعلى قيادة “البوليساريو” نفسها، لأن من شأن توسع هامشية استقلاليتها أن يحدث تغييراً في منظورها إلى النزاع المفتعل ويحررها من وضعية الرهينة التي يتم توظيفها لتصفية الحسابات مع المغرب بدل إيجاد حل حقيقي ودائم، لكن مع ذلك لم يكن مستبعداً أن تكون الجبهة تخطط لتحويل جزء من “المنطقة العازلة” إلى “منطقة آمنة” عبر السعي لاستصدار قرار من مجلس الأمن بهدف حماية المدنيين ومراقبة حقوق الإنسان وحقهم في التوصل إلى جزء من ثروات المنطقة، وذلك في انتظار الحل السياسي الذي يبدو أعقد من أي فترة سابقة.
فبعد تعيين المبعوث الشخصي الحالي للأمين العام للأمم المتحدة الخاص بالصحراء المغربية، الدبلوماسي المخضرم ستيفان دي ميستورا، حاول النظام الحاكم في الجزائر وضع العراقيل أمامه حتى قبل أن يبدأ مهمته، فقد طالبت الجزائر ساعتها بانسحاب الجيش المغربي من منطقة الكركرات بوصفها منطقة عازلة، وهي المنطقة نفسها التي حوّلتها ميليشيات “البوليساريو” إلى منطقة للاستعراض والدعاية بعد قطع الطريق الدولي الذي يربط أوروبا بأفريقيا، ما عرّض جزءاً من التجارة العالمية لمخاطر حقيقية استدعت تدخلاً تقنياً للقوات المسلحة الملكية المغربية لإعادة الوضع إلى طبيعته من دون تغيير في قواعد الاشتباك، ومن دون مساس باتفاقية التسوية التي تمتد إلى تسعينات القرن الماضي، لكن التطورات الأخيرة، بخاصة الاتصالات بين المغرب وقوات “المينورسو” ولقاءات قادة “المينورسو” مع سفراء الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن في الرباط، توضح أن شهر نيسان (أبريل) المقبل قد يعرف تغييرات جذرية في وضعية المنطقة العازلة، وذلك لوضع حد لمناورات الانفصاليين المستمرة منذ سنوات والمتمثلة في:
أولاً: محاولة جبهة “البوليساريو” استثمار الغموض الذي يلف عدداً من بنود الاتفاقية العسكرية الرقم واحد بين الطرفين، والتي هي من مشمولات اتفاقية وقف إطلاق النار سنة 1991 وكانت موضوع مراجعة سنة 1997/1998، وتقسم هذه الاتفاقية العسكرية وملحقاتها الصحراء إلى خمس مناطق هي:
- منطقة عازلة عرضها خمسة كيلومترات شرق الجدار الرملي للقوات المسلحة الملكية.
- منطقتان مقيدتا الولوج (25 كيلومتراً شرق الجدار الرملي و30 كيلومتراً غربه، على التوالي).
- منطقتان خاضعتان لقيود محدودة، تشملان ما تبقى من أراضي الصحراء.
ثانياً: تعامل جبهة “البوليساريو” بانتقائية مع طبيعة المنطقة، والسعي لتوظيف ملاحظات سابقة للأمناء العامين بخصوص “خرق” المغرب للوضع في المنطقة العازلة، والذي كانت له أسباب أمنية تتعلق بالجريمة المنظمة وشبكات الهجرة السرية والتهريب، إضافة إلى ارتباطات تلك الأنشطة بالجماعات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء.
ثالثاً: سعي “البوليساريو” إلى إحداث تغيير في طبيعة المنطقة العازلة، وذلك بتحويل جزء منها على الأقل إلى “منطقة آمنة” عبر استصدار قرار من مجلس الأمن، والمناطق الآمنة في ممارسات الأمم المتحدة تفرض توفير حماية المدنيين ومراقبة حقوق الإنسان وحقهم في التوصل إلى جزء من ثروات المنطقة، وذلك عبر نقل جزء من مخيمات تيندوف إلى المناطق العازلة واستثمار أحكام القضاء الأوروبي والدولي (جنوب أفريقيا مع شحنة الفوسفات).. ودفع المغرب وإخضاعه لإنتاج ممارسات في علاقته بالأمم المتحدة، تجعله يعترف على نفسه بأنه “مجرد” قوة تدير المنطقة.
رابعاً: وعي جبهة “البوليساريو” ومن ورائها الجزائر، بضيق هامش المبادرة على المستوى الدولي، وضعف الإقبال على أطروحات الانفصال، لذلك يسعى الطرفان إلى إحداث واقع إنساني على الأرض في المنطقة العازلة، وتقديم تفسير لا يمنع المدنيين والمنشآت المدنية التابعة للجبهة من الوجود في المنطقة العازلة، باعتبار أن الجبهة هي طرف في النزاع وأن سكان مخيمات تيندوف مرتبطون بالصحراء في ظل أي مصير ستعرفه.