مفارقات التعليم في المغرب

بقلم : د. عادل بنحمزة


منذ أكثر من أسبوعين والمغاربة يتلقّون أخباراً متناقضة تتعلّق بالتعليم ومستوى التلاميذ المغاربة. الخبر الأول يعود إلى منتصف شهر أيار (مايو) الماضي، حيث صُدم المغاربة بنتائج الدراسة الدولية للتحصيل الدراسي في القراءة المعروفة اختصاراً باسم PIRLS دورة 2021، وهي في المناسبة الدورة الخامسة، حيث شارك المغرب في كل الدورات السابقة، وكشفت نتائج الدراسة حصول المغرب على المرتبة ما قبل الأخيرة بـ 372 نقطة، وذلك من أصل 57 دولة شاركت في الاختبار، بينما تذيّلت النتائج دولة جنوب إفريقي

تُعدّ PIRLS دراسة عالية تُشرف عليها “الجمعية الدولية لتقييم التحصيل التربوي” (iea) ومقرّها هولندا، وهي هيئة دولية مستقلّة. وتقوم الدراسة على أساس المقارنة بين الدول المشاركة في تقييم قدرة طلاب الصف الرابع في مهارات القراءة بلغتهم الأم. يقول المشرفون على هذه الدراسة، “إنّ اختيار هذا المستوى الدراسي يعود لكونه يمثّل “نقطة تحوّل هامّة في نمو الطفل كقارئ. ففي هذه المرحلة، يكون الأطفال قد تعلّموا كيف يقرأون، وقد بدأوا يقرأون ليتعلّموا. وهكذا، قد يكون لقصور فهمهم للنصوص التحريرية في هذه المرحلة تأثير سلبي على أدائهم في معظم المواد الدراسية الأخرى”. ومن بين أهداف الدراسة، تزويد الدول ببيانات دولية مقارنة، إضافة إلى بيانات عن اتجاهاتها الوطنية الخاصة بتعلّم معرفة القراءة لطلاب الصف الرابع.

تميّزت الدراسة التي صدرت نتائجها يوم الثلثاء في 16 أيار (مايو) 2023، بمشاركة 400 ألف تلميذ في الاختبار. أنجزت 43 دولة الاختبار في نهاية السنة الدراسية 2020–2021، بينما تمّ تأجيله في 14 دولة، من بينها المغرب، بسبب ظروف جائحة “كوفيد–19” إلى الفترة بين أيلول (سبتمبر) وكانون الأول (ديسمبر) 2021، وقد شارك في الدراسة 7000 تلميذ وتلميذة من المغرب، 52 في المئة منهم ذكور و48 في المئة إناث.

نتائج الدراسة، وعلى غرار السنوات السابقة، أكّدت استمرار تفوّق الإناث على الذكور في الجانب المتعلّق بالقراءة وكفايات التمكّن منها بفارق 34 نقطة وبواقع 390 نقطة، فيما حصل الذكور على 356 نقطة فقط. ويكفي التذكير، أنّ سنغافورة التي احتلت المرتبة الأولى حقّقت في تقييم الاختبار 587 نقطة، وهو ما يوضح الفرق الشاسع.

ملكة الرياضيات

الخبر الثاني كان سعيداً جداً لثلاثة أسباب، الأول لأنّ صاحبته تنتمي إلى المدرسة العمومية وبالضبط ثانوية الجولان في بيوكرى إقليم اشتوكة أيت باها (وسط المغرب)، والسبب الثاني يعود إلى كون الأمر يتعلق بفتاة، في الوقت الذي ما زال يواجه المغرب بعض الصعوبات في تعلّم الفتيات، بخاصة بعد التعليم الأساسي في القرى والمناطق النائية. والسبب الثالث، لأنّ الأمر يتعلق بتفوّق على المستوى القاري في مادة بالغة الأهمية وهي الرياضيات. هذه هي أسباب الفرحة التي منحتها للمغاربة التلميذة “هبة الفرشيوي” لمناسبة تتويجها بلقب “ملكة الرياضيات الإفريقية”، باحتلالها المرتبة الأولى على لائحة ترتيب الإناث في منافسات الدورة الثلاثين من أولمبياد الرياضيات، التي سهر على تنظيمها المعهد الإفريقي للعلوم الرياضية، في الفترة الممتدة من 12 إلى 22 أيار (مايو) الماضي، والتي احتضنتها العاصمة الرواندية كيغالي. لم تقتصر المشاركة المغربية على تتويج هبة، بل أيضاً تتويج المنتخب المغربي، الذي يضمّ 6 أفراد، 3 منهم إناث و3 ذكور، بالمرتبة الأولى على صعيد الفِرَق، متبوعاً بكل من الجزائر وجنوب إفريقيا، وذلك من بين 32 دولة إفريقية.

الخبر الثالث جاء هذه المرة من كندا، حيث تمكنت التلميذة المغربية “حفصة بنعامر”، البالغة من العمر 11 سنة، من إحراز المركز الثاني ضمن مسابقة الإملاء الدولية “Paul Gérin-Lajoie” التي نُظّمت في مدينة مونتريال في كندا، بمشاركة أكثر من 80 تلميذاً من كل أنحاء العالم. الأمر مرّة أخرى يتعلق بتلميذة، وهذا أمر مهمّ للغاية في سياق وضعية تعليم الفتيات في المغرب. 

لا شك في أنّ السعادة غمرت المغاربة، وكان ذلك واضحاً من حجم الاحتفاء بهبة وحفصة على وسائط التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقليدية الخاصة والرسمية. لكن بموضوعية مطلقة، هل يمكن لهذه الإنجازات أن تُخفي حقيقة المدرسة المغربية؟ والمدرسة العمومية على وجه الخصوص، بعد الانحدار المؤسف الذي وقعت فيه على مدى عقود؟ أليست هبة وحفصة شجرة يحق للمغاربة أن يفخروا بها، لكن، ألّا يتحول الأمر إلى ما يشبه التواطؤ في لحظة انتشاء، تصبح فيه الشجرة تلعب وظيفة إخفاء غابة المدرسة المغربية وبخاصة المدرسة العمومية التي تمّ تجريفها تماماً، بل البعض لا يُخفي أنّ الهدف هو تدعيم القطاع الخاص، وكأنّه السبيل الوحيد للإفلات من الكمّاشة التي أطبقت على التعليم في المغرب وحوّلته إلى مجرد ذكرى.

منذ أشهر، تابعت لقاءً إعلامياً للسيد أحمد رحو رئيس مجلس المنافسة، نظّمته مؤسسة “الفقيه التطواني” في مدينة سلا. تضمّن اللقاء عدداً من القضايا التي تخصّ عمل مجلس المنافسة، وبالرغم من أهمية كل القضايا التي أُثيرت في اللقاء، فإنّ موضوع التعليم والمدرسة استوقفني. وما استوقفني أكثر، هو تمثّل السيد رحو للمدرسة وللعملية التعليمية ككل، بوصفها مجرّد سلعة يجب أن تخضع لمنطق السوق، ينطبق عليها في ذلك ما ينطبق على باقي السلع. وحتى عندما تحدث السيد رحو عن الدعم في علاقته بالمدرسة، فإنّه تحدث عن دعم الأُسر المعوزة لتمكين أبنائها من ولوج مدارس القطاع الخاص، لافتاً إلى هدف لا أعرف شخصياً من وضعه ولأية غاية، وهو الوصول إلى نسبة 20 في المئة من مجموع التلاميذ المغاربة في مدارس القطاع الخاص، وحيث أنّ هذه النسبة إلى اليوم لا تتجاوز 15 في المئة، فإنّ الأمر يستحق دعم تحقيق هذا الهدف، بحسب رئيس مجلس المنافسة… علماً أنّ رحو يعلم أنّ الهروب الجماعي إلى مدارس القطاع الخاص في غالبية المناطق، لا يمثّل اختياراً لدى طيف واسع من المغاربة، وبخاصة الطبقة الوسطى، بل هو موقف مما وصلت إليه المدرسة العمومية من تدنٍ خطير، حتى أصبحت أشبه بفضاءات لـ”الحرّية المحروسة” يُترك فيها الأطفال حتى يستطيع أولياء أمورهم تدبّر مصاريف البقاء على قيد الحياة.

وحيث أنّ المدرسة العامة أضحت حكراً على الفئات الفقيرة، فإنّها عملياً تحوّلت إلى “غيتوات” وصورة من صورة التمايز الطبقي المؤسف، بعد كل هذه السنوات الطويلة التي تفصلنا عن الاستقلال وقيام الدولة الحديثة. ولا شك أنّ السيد رحو، وهو خريج المدرسة العمومية، يدرك أنّ دور المدرسة هو أن تحفظ الحق في عدم توريث الفقر، وأن تمنح الأطفال الحظوظ نفسها من دون أن يكون الفقر أو الغنى محدّداً لمستقبلهم. فالمدرسة يجب أن تلعب دور الترقّي الاجتماعي الذي يعالج الاختلالات الأخرى في المجتمع… بناءً على ذلك، وإذا كانت الغاية هي الوصول إلى 20 في المئة في القطاع الخاص، فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه هو، ماذا سنفعل بـ 80 في المئة الأخرى المنفية في المدرسة العمومية؟ وكيف يمكن بناء مستقبل المغرب في ظلّ النظر إلى التعليم بوصفه مجرّد سلعة استهلاكية يجب أن تخضع لمنطق السوق؟

الخبر الرابع، كان عبارة عن مذكرة صادرة عن وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، تتعلّق بإدراج تعليم اللغة الإنكليزية بدءاً من الموسم المقبل في السلك الثانوي الإعدادي. لا شك أنّ الخبر مهمّ جداً في مسار إصلاح المدرسة المغربية، بل تأخّر طويلاً، لكن علينا ألاّ نسقط مجدداً في اختصار كل أعطاب المنظومة التعليمية في مسألة اللغة التي صنع منها البعض شمّاعة لتعليق كل الأخطاء عليها. وقد تناوبت على هذا الدور اللغتان العربية والفرنسية، بينما الخلل في مكان آخر. إذ كيف تكون المشكلة في اللغتين العربية والفرنسية، علماً أننا نجد أنفسنا بعد 12 سنة من التدريس، أمام تلاميذ لا يتقنون لا العربية ولا الفرنسية، فهل صحيح كنا ندرّس اللغتين وندرس بهما؟ لذلك، يمكن القول منذ اليوم، إنّ مصير اللغة الإنكليزية سيكون نفس مصير العربية والفرنسية، إذا استمرت المقاربة الفاشلة نفسها في تدريس اللغات. كما من الواجب التذكير، أنّ كل الأمم المتقدّمة تقدّمت في الأصل بلغاتها الوطنية، وأنّ الإنكليزية غير قادرة لوحدها أن تصنع المعجزة، بل إنّ أكثر من 20 دولة من إفريقيا جنوب الصحراء، لم تكتفِ فقط باعتماد اللغة الإنكليزية كلغة تدريس، بل إنّها اعتمدتها لغة رسمية في الدولة ككل مثل: بوتسوانا، اريتيريا، غامبيا، غانا، كينيا، ليسوتو، ليبيريا، مالاوي، موريشيوس، ناميبيا، رواندا، سيشل، جنوب إفريقيا، سوازيلاند، تنزانيا، أوغندا، زامبيا، زيمبابوي ونيجيريا، وهذه الأخيرة تحتل المرتبة 185 عالمياً في جودة التعليم، وليست فيها جامعة واحدة مصنّفة، علماً أنّها دولة كبيرة يناهز عدد سكانها 180 مليون نسمة، وتنام على ثروات نفطية وغازية ومعدنية هائلة، فيما دولة أخرى صغيرة وفقيرة من حيث الموارد في جنوب شرق آسيا مثل كوريا الجنوبية، استطاعت أن تصنع معجزة حقيقية اقتصادية وعلمية، علماً أنّها تعتمد اللغة الكورية كلغة للتدريس في كل مراحل التعليم، شأنها في ذلك شأن الدول الرائدة في التعليم، مثل فنلندا وهولندا وغيرهما من الدول. لذلك، علينا ألاّ نبني أوهاماً كبيرة بخصوص تدريس اللغة الإنكليزية.

مغرب العالم: جريدة إلكترونية بلجيكية -مغربية مستقلة