دوار أغبار- عندما تضع اسم الدوار الذي يوجد فيه الشابان منير العمارتي وصديقه علي على خريطة غوغل، يخبرك بأن المسافة التي تفصلك عنه من مراكش تصل إلى 150 كيلومترا جنوبا، وبأن الوقت اللازم لقطعها لن يتجاوز 3 ساعات و30 دقيقة.
لكن هيهات، فغوغل يحسب المسافات بالأرقام والخوارزميات التي يبرمج عليها، وليس من ضمنها بالضرورة تفاصيل ما يشبه طريقا جبلية متعرجة ومليئة بالأحجار المتساقطة، تصل بين قرى ودواوير دمرها زلزال قوي بلغ 7 درجات على سلم ريختر.
لكن لا مناص من الذهاب إلى أغبار برغم ذلك، ولا مناص من المرور عبر تلك الطريق الجبلية المرعبة، وذلك للوصول إلى شابين مغربيين سارعا إلى القيام بمبادرة مهمة جدا في الساعات الأولى التي تلت الزلزال العنيف، وسافرا إلى قرى الأطلس لتقديم خدماتهما لسكان تلك الدواوير المعلقة في الجبال.
دوار أغبار يقع بأقصى جبال الأطلس على بعد 150 كيلومترا جنوب مراكش (الجزيرة)
قضينا أكثر من 8 ساعات في الطريق التي أخبرنا غوغل أنها ستكون
3 ساعات و30 دقيقة فقط، ووصلنا إلى أغبار بعد حلول الظلام عبر طريق جبلية وعرة والقلوب وجلة من سقوط أحجار قد تلقي بالسيارة إلى أسفل الوادي السحيق، ثم سألنا عن “المدرسة” التي أخبرنا الشاب منير وصديقه علي بأنهما يوجدان فيها هذه الليلة.
والرفيقان يزوران كل ليلة دوارا معينا، ويقدمان الخدمة لسكانها، وهي خدمة عزيزة في هذا الظرف بالذات.
المدرسة تقع في أسفل جبل شاهق، وحيثما وليت وجهك ترى جبلا شاهقا، وأول سؤال يراودك وأنت ترى عظمة هذا الملكوت تسأل نفسك “ماذا لو حدث زلزال الآن، إلى أين المفر؟”، وذلك بعد أن عاينت بنفسك كيف ينجو السكان كل يوم من الموت ليصلوا إلى دوارهم الضيق، وبيوتهم المتهالكة.
خلف سور المدرسة جلس منير وعلي يرتاحان من تعب يوم شاق، ويستعدان لليلة شاقة أخرى، فظروف الزلزال تجبرهما -هما أيضا- على العمل ليل نهار، ويقضيان كل ليلة في دوار أو قرية.
وخلال وجودنا مع منير وعلي بساحة مدرسة أغبار، كان يقطع حديثنا في كل وقت وحين من يسأل عن شبكة الإنترنت، ومن يطلب شحن هاتفه، ومن يسأل الصديقين التكرم بتشغيل كشاف الكهرباء.
ففي هذا الظلام الدامس، وسط هذا الدوار الغارق في الظلام، الناس تحتاج لرؤية ما تأكل وما تشرب، مثلما تحتاج لأن تطمئن على أهاليها، وتخبرهم بأنها في سلام ببطن هذه الجبال المرعبة.
واصلنا الحديث ونحن جالسون على نقالة، “هذا سريري الذي أنام عليه” يخبرنا منير ضاحكا، فيما فضل صديقه علي الاستلقاء هناك على مرتبة صغيرة خلف سور المدرسة التي خلت الآن من تلاميذها، فيما امتلأت ساحة المدرسة بسيارات رجال السلطة وفرق الإغاثة والتطبيب.
تابع منير حديثه بالقول إنهم ينتقلون إلى بعض الدواوير فيختارون منطقة عالية وينصبون كشافا ضوئيا قويا يضيء منطقة واسعة من الدوار يتجمع فيها الأهالي، فينعمون فيها بساعات طويلة من الكهرباء، وبشبكة الإنترنت، فيتواصلون مع أحبابهم، ويأكلون ويشربون ويتسامرون تحت الضوء.
ولا حديث هذه الأيام بين الناس هناك في تلك القرى المعلقة في الجبال إلا عن الزلزال وضحايا الزلزال، والرعب الذي تركه الزلزال العنيف في القلوب.
قيل مات لكنه اتصل!
يخبرنا منير أن غياب شبكة الاتصال خلق مشاكل كثيرة للناس، ومنها أن إحدى الأسر أُخبرت بأن ابنها الذي يشتغل بمدرسة هدت على رؤوس أصحابها، مات بعد الزلزال. لكن الذي حدث هو أن الأسرة فوجئت -وهي في جو جنائزي كله بكاء وعويل- بابنها يتصل بها ليطمئنها عليه بعدما نجح في الوصول إلى منطقة تشتغل بها شبكة الهاتف.
“هذه حكاية مأساوية من ضمن حكايات كثيرة سمعناها من سكان الدواوير الذين نصل إليهم، لذا نحن حريصان على البقاء هنا وتقديم الخدمة حتى تتوقف الحاجة إلينا”، يضيف منير.
ولأن المأساة كانت كبيرة، ولأن عدد الدواوير يعد بالآلاف (6 آلاف بحسب بعض الناشطين الجمعويين)، فالحاجة إلى الكهرباء وشبكات الاتصال ستستمر حتى تنتهي السلطات من إصلاح البنية التحتية التي دمرها الزلزال العنيف.
يقضي منير وعلي نهارهما وليلهما ما بين شحن البطاريات المتطورة، وتشغيل شبكة الإنترنت لفائدة الجميع، وبين الانتقال بين الدواوير ليلا. وبينما هو يحدثنا عن الأهالي ومعاناتهم قفز من مكانه وكأنه تذكر أن يأكل، فسأل صديقه علي عن سندويتش بسيط تركه له أحدهم، فأتى به وشرع في ازدراده.
كرم رغم الدمار
“لم آكل شيئا منذ ساعات طويلة”، قال منير باسما، وأضاف أنه لم يشهد مثل كرم سكان الدواوير الذين وبرغم مأساة الزلزال، يقدمون لمنير وعلي أغلى ما يملكون من أكل عندما يصلان إليهم ليلا لتمكينهم من خدمة الإنترنت، وضوء البطاريات الساحر.
وقفنا نستعد لمغادرة المدرسة المتداعية التي تكاد تطبق عليها هذه الجبال المحيطة بها، ومنير يودعنا، وينصحنا قائلا “عندما تصلان إلى الطريق فوق الجبل، توجها نحو مدينة تارودانت التي تبعد عن هنا بنحو 70 كيلومترا، وإياكما أن تعودا أدراجكما من نفس الطريق التي أتيتما منها من مراكش، حذار ثم حذار، فلم يعد يفصلنا عن منتصف الليل سوى ساعتين”!
ركبنا السيارة، وبدأنا رحلة الصعود إلى الجبل عبر طريق حجرية خطرة، وقررنا أن “نعصي” منير وعدنا من نفس الطريق التي أتينا منها.
ومع مرور الدقائق واقتراب منتصف الليل، ساد صمت مخيف داخل السيارة ونحن نرى هذه الأحجار الضخمة التي سقطت من الجبل والتي تكاد تقطع الطريق الحجرية غير الممهدة، وراودتنا مخاوف من أن تسقط إحداها علينا فتلقي بنا في أسفل الوادي السحيق، أو تجبر السيارة على الانحراف قليلا فلا تتوقف إلا في القاع هناك، حيث لا يوجد سوى الظلام الدامس.
المصدر : الجزيرة