بقلم: د. عادل بنحمزة/ المغرب
قبل ستة أشهر تساءلت في هذا الركن عن مصير تلاميذ المدرسة العمومية في المغرب تعليقاً على ما صرح به رئيس مجلس المنافسة السيد أحمد رحو في لقاء إعلامي. اللقاء تضمن عدداً من القضايا التي تخص عمل مجلس المنافسة، ورغم أهمية كل القضايا التي أُثيرت في اللقاء، فإن موضوع التعليم والمدرسة استوقفني، وما استوقفني أكثر، هو تمثل السيد رحو للمدرسة وللعملية التعليمية ككل بوصفها مجرد سلعة يجب أن تخضع لمنطق السوق، ينطبق عليها في ذلك ما ينطبق على باقي السلع.
وحتى عندما تحدث السيد رحو عن الدعم في علاقته بالمدرسة، فإنه تحدث عن دعم الأسر المعوزة لتمكين أبنائها من ولوج مدارس القطاع الخاص، متحدثاً عن هدف لا أعرف شخصياً من وضعه ولأي غاية، وهو الوصول إلى نسبة 20 في المئة من مجموع التلاميذ المغاربة في مدارس القطاع الخاص، وبما أن هذه النسبة إلى اليوم لا تتجاوز 15 في المئة، فإن الأمر يستحق دعم تحقيق هذا الهدف بحسب رئيس مجلس المنافسة… علماً أن السيد رحو يعلم أن الهروب الجماعي إلى مدارس القطاع الخاص في غالبيته القصوى لا يمثل اختياراً لدى طيف واسع من المغاربة وبخاصة الطبقة الوسطى، بل هو موقف مما وصلت إليه المدرسة العمومية من تدن خطير، حتى أصبحت أشبه بفضاءات “للحرية المحروسة” يترك فيها الأطفال حتى يستطيع أولياء أمورهم تدبر مصاريف البقاء على قيد الحياة، وبما أنها أضحت حكراً على الفئات الفقيرة، فإنها عملياً تحولت إلى “غيتوهات” وصورة من صورة التمايز الطبقي المؤسف بعد كل هذه السنوات الطويلة التي تفصلنا عن الاستقلال وقيام الدولة الحديثة. وبلا شك فإن السيد رحو وهو خريج المدرسة العمومية، يدرك أن دور المدرسة هو أن تحفظ الحق في عدم توريث الفقر وأن تمنح الأطفال الحظوظ نفسها من دون أن يكون الفقر أو الغنى محددين لمستقبلهم، فالمدرسة يجب أن تلعب دور المصعد الاجتماعي الذي يعالج الاختلالات الأخرى في المجتمع… بناءً على ذلك، وإذا كانت الغاية هي الوصول إلى 20 في المئة في القطاع الخاص، فإن السؤال الذي طرحته ساعتها هو: ماذا سنفعل بـ80 في المئة الأخرى المنفية في المدرسة العمومية؟ وكيف يمكن بناء مستقبل المغرب في ظل النظر إلى التعليم بوصفه مجرد سلعة استهلاكية يجب أن تخضع لمنطق السوق؟
الجواب هو ما تعرفه المدرسة العمومية في المغرب من إضرابات مستمرة منذ أكثر من شهرين على خلفية إصدار النظام الأساسي الجديد الخاص بموظفي التربية والتعليم، بحيث أصبحنا عملياً على شفا سنة بيضاء، وحتى إذا تمت تلبية مطالب نساء التعليم ورجاله، سواء تلك التي تتعلق بمضامين النظام الأساسي أو تلك المتعلقة بالزيادة في الأجر وتحسين الظروف المادية للعمل، فإن تدارك ما ضاع على التلاميذ من تحصيل مسألة صعبة ومعقدة، وهذا الأمر يكرس اللامساواة بين تلاميذ الجيل نفسه الملزمين باجتياز امتحانات موحدة في السنوات الإشهادية من دون تمييز بين من يدرسون في مدارس القطاع الخاص ومن يدرسون في المدارس العمومية، وهو ما يطرح تساؤلات واسعة عن العدالة وتكافؤ الفرص التي يمكن أن تتحقق في ظل الوضعية الحالية.
هدر الزمن المدرسي ليس مسألة طارئة أو استثنائية في تدبير قضية التعليم في المغرب، فهذا الأمر حذرنا منه منذ سنوات عندما عرض مشروع قانون الإطار 51.17 الخاص بالتربية والتكوين والبحث العلمي، نتذكر أن مسار ذلك النص الذي عقدت عليه آمال واسعة، انطلق منذ 2014 تاريخ التكليف الملكي للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي وضع خريطة طريق كفيلة بإصلاح المدرسة المغربية، وعندما نعلم أن الملك طالب بوضع الرؤية التي خلص إليها المجلس الأعلى في صيغة قانون إطار ملزم لجميع الأطراف وذلك منذ 30 تموز (يوليوز) 2015، من دون أن ننسى أن آجال الرؤية الإستراتيجية التي جاء مشروع قانون الإطار لأجرأتها، كان من المفترض أن تبدأ سنة 2015 وتنتهي سنة 2030، علماً أن قانون الإطار وضع آجالاً تمتد إلى ست سنوات، ولا حاجة للتذكير اعتماداً على تلك الآجال أن النص لم تبدأ أجرأته جزئياً سوى سنة 2020، معنى ذلك أن الرؤية التي كان من المفروض انطلاق العمل بها سنة 2015 على أن تقدم نتائجها سنة 2030، لن تنطلق عملياً سوى سنة 2026، وعوض أن تمتد على خمس عشرة سنة، فإنها لن تتجاوز أربع سنوات، ولا حاجة بالطبع لذكاء خارق لتوقع النتائج، فالنتائج من جنس المقدمات كما يقول الفقهاء…
مع الأسف هناك موارد كبيرة تُعتمد على مستوى الدولة لتلبية حاجات إصلاح التعليم، لكن إلى اليوم لم يفتح النقاش الجاد حول مستوى التكوين الذي يحصل عليه المدرسون وحجم الغلاف الزمني المخصص لعملية التدريس مقارنة بما هو معمول به في أرقى الأنظمة التربوية حول العالم، ذلك أن التلميذ المغربي يُرهق بساعات دراسة تفقده القدرة على التركيز، يُضاف إلى ذلك برنامج ومقررات تعتمد على الكم وتتوسل الحفظ والاستظهار في إطار بضاعتنا ردُت إلينا، بما يقتل العقل النقدي والقدرة على التحليل، ومعظم المقررات تُرمى في سلة المهملات مباشرة بعد اجتياز الاختبارات، يضاف إلى ذلك الكتاب المدرسي الذي تحول إلى بقرة حلوب، من خلال “كرنفال” من المقررات المختلفة والمتنوعة التي تدر المليارات على من يتحكمون في صناعتها، وهو أمر بسيط كان لا يحتاج سوى إلى إرادة سياسية حقيقية لقطع دابر الفساد المرتبط بهذه العملية.. هذه القضايا هي التي يجب أن تكون ذات أولوية في النقاش العمومي، لا يعني ذلك إسقاط المطالب المادية لنساء التعليم ورجاله لأنها مطالب مشروعة، ولكن يجب ألا تتحول تلك المطالب إلى شجرة تخفي غابة الاختلالات العميقة والخطيرة التي تعرفها المنظومة التعليمية في مغرب أطلق طموحات واسعة وعازم على انتزاع مكانة في الاقتصاد الجديد المبني على المعرفة والابتكار..