بقلم : دكتور عادل بنحمزة
قبل أيام فُتحت الحدود البرية بين المغرب والجزائر، لكنها لم تفتح كما يحدث للحدود في كل الدنيا للأحياء، بل فُتحت لاستقبال جثامين مغاربة كانوا مرشحين للهجرة السرّية انطلاقاً من سواحل الجزائر..
أي صورة مأسوية تلك التي تعطيها الحدود البرية بين المغرب والجزائر؟ تلك الحدود المغلقة منذ ثلاثة عقود تقدّم صورة استثنائية بائسة بين بلدين انفرط عقد علاقاتهما الدبلوماسية وتوقفت كل أشكال الاتصال بينهما بقرار جزائري، بينما تعرف حدودهما البرية أطول فترة إغلاق كامل في زمن السلم، إذ حتى الحدود بين الكوريتين الشمالية والجنوبية لا تعرف هذه الصورة البائسة، فقد عملت الدولتان على إحداث دينامية اقتصادية على الحدود يتقاسمان ثمارها، أما على ضفتي “زوج بغال” فإنّ الحدود زادت تشدّداً ورقابة بشكل لا يختلف كثيراً عن الحدود البرية في زمن نظام الثنائية القطبية التي كانت تقسم العالم إلى معسكرين، واحد في الشرق موالٍ لموسكو، وآخر في الغرب موالٍ لواشنطن.
نتذكّر هنا الحدود في برلين بين الضفتين، وهي أهم تلك الحدود البرية التي كانت ترمز بشدة لذلك الانقسام العنيف والشامل، لكن منذ انهيار جدار برلين جرت مياه كثيرة في العلاقات الدولية، وحدها الحدود البرية بين المغرب والجزائر ما زالت وفية لزمن الحرب الباردة، حدود فصلت بين أجيال من المغاربيين، وحرمت الكثير من الشباب في أن يتعرّفوا على باقي بلدان المغرب الكبير، حتى أنّ شعوب المنطقة التي من المفترض أنّها تملك قواسم مشتركة كثيرة، أضحت اليوم في الغالب لا تعرف بعضها البعض، أو أنّها في أحسن الظروف تعرف الشيء القليل، وهي حالة نادرة على المستوى الدولي، وتحمل بلا شك مخاطر في المستقبل.
أكثر المتفائلين ممن يتابعون تطور النظام الجزائري، يقرّون أنّ توقّع حدوث تغيير في مواقفه تجاه المغرب مسألة أضحت شبه مستحيلة، ما لم يحدث تغيير جذري في بنية النظام نفسه، ذلك أنّ استمرارية النظام العسكري التي شكّلت “جبهة التحرير” واجهته السياسية لفترة طويلة، أصبح غير قابل للإصلاح بل أضحى خطراً على جيرانه في الغرب والشرق والجنوب، وآخر ذلك ما تعرفه العلاقات الجزائرية- المالية من تدهور سريع، بحكم تورط الجزائر في دعم الحركات الانفصالية والإرهابية في شمال مالي.
النظام الجزائري دخل مرحلة غير مسبوقة من الإفلاس يذكّرنا بحالة النظام السوري الذي رفض التخلّي عن السلطة ولجأ إلى كل أشكال العنف مستعيناً بإيران و”حزب الله” وروسيا، ورغم أنّ سوريا تحوّلت إلى كانتونات ومناطق نفوذ لدول وجماعات مسلّحة، فإنّ ذلك لم يحرّك شيئاً في نظام يقبل أن تبقى سلطته في حدود دمشق، لذلك فإنّ السيناريو المقبل في الجزائر لن يكون مختلفاً عن هذه الصورة بما يشكّله ذلك من خطر على استقرار منطقة المغرب الكبير ومنطقة الساحل والصحراء، بخاصة مع تعثر كل محاولات الإصلاح والتغيير.
عرفت الجزائر منذ شباط (فبراير) 2019 انتفاضة شعبية كانت تبدو واعدة، لا لون حزبياً أو نقابياً أو سياسياً لها، وبقدر ما كانت مفتوحة على المجهول، فإنّها مع ذلك قدّمت بعض الحقائق، أبرزها أنّ الشعب الجزائري الذي كان يبدو للكثيرين أنّ آلة القمع قد تمكنت منه، وأنّ آثار عشرية الدم ما زالت نافذة بشكل يخفّض من حجم مطالب المجتمع ويقصّرها في الجانب الأمني، أظهر أنّ تلك الصورة النمطية قد تغيّرت، لكن الوضوح يجعلنا نعترف أنّ من فعل ذلك، هي تلك الأجيال التي تطال الغالبية الساحقة في المجتمع، والتي تتكون من الشباب الذين لم يعشوا عُشرية الدم، بل من فتحوا عيونهم في زمن عبد العزيز بوتفليقة ومن لم يمنحهم الحاكمون في قصر المرادية أي أمل في المستقبل… هؤلاء هم من ملأ الساحات لأسابيع طويلة، ويبدو أنّ هذه الأجيال الجديدة تسعى وإن طال الزمن، إلى إعادة بناء الجزائر وفق رؤيتها؛ لا كما يسعى إلى ذلك رموز النظام سواءً من أسقطوا، أو من قاموا بعملية تدوير نظام جبهة التحرير في إطار تصفية حسابات داخل النظام مع توظيف حراك الشارع، وهي دورة مفرغة استمرت منذ الاستقلال إلى اليوم.
لقد استطاع النظام الجزائري النجاة من الموجة الأولى لـ”الربيع العربي” ومن موجة شباط (فبراير) 2019، هذه النتيجة لم تتحقق بفضل إصلاحات سياسية عميقة تمسّ جوهر البنية المغلقة للسلطة في الجزائر منذ إجهاض المسار الديموقراطي بداية التسعينات من القرن الماضي، بل فقط بقدرة النظام على شراء السلم الإجتماعي بفائض الأموال التي حصل عليها في فترة قياسية نتيجة الإرتفاع الكبير الذي عرفته أسعار النفط قبل اندلاع الثورات في المنطقة، والتي بلغت حوالى تريليون دولار منذ 1999، ومحاولة استثمار أزمة الطاقة بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، وهو ما أصبح محدود التأثير اليوم، ويظهر ذلك جلياً في ضعف الاحتياطات النقدية من العملة الصعبة وعدم القدرة على تغطية حاجيات البلاد من المواد التموينية الأساسية.
غير أنّ حكّام المرادية نجحوا لسنوات في توظيف حالة الرهاب الجماعي التي تتملك فئات واسعة من الشعب الجزائري، نتيجة عشرية الدم التي دفع الشعب الجزائري ثمنها، حيث نجح النظام في تخويف الجزائريين من المغامرة بأمن البلاد.. وهو ما تكسّر مع بداية الحراك الاجتماعي لسنة 2019، لأنّ الأجيال الشابة لم تعش تلك الحقبة، لذلك نجدها متحرّرة من مخاوف تلك المرحلة، ومن المرجح أن يعود الحراك بقوة أمام تراجع موارد النظام التي لم تعد تكفي لتغطية شراء صمت المجتمع وإشباع جيوب الفساد في الوقت نفسه…