
الدكتور عبد الله بوصوف

أن تعيش في بلدٍ تزخر جينات شخصيته الوطنية بالأصالة والمروءة والشهامة، ويتمتع بإرثٍ كبير من الأحداث العالمية أو في صناعتها…
أن تعيش في وطنٍ واجه أبناؤه بشجاعة كل الحملات الاستعمارية والصليبية وحملات الحماية، مسلحين بإيمانٍ قوي، ومرتبطين ببيعةٍ مقدسة تحت مظلة إمارة المؤمنين منذ قرونٍ عديدة، حتى عُرف بالإمبراطورية الشريفة في زمن الإمبراطوريات التاريخية…
فكل هذا وغيره يرفع الدفاع عن حوزة الوطن وحدوده وصورته في الخارج إلى منزلة الشرف الكبير، ويجعل منه نيشانًا فخريًا يُعلَّق على صدر كل من يحمل بندقيةً أو قلمًا، ويضعه في مقام الواجب الوطني.
لقد عشنا حلقاتٍ قوية من أطوار المحاكمة الشعبية لكل أعداء الوطن في الخارج، إذ كان الهدف تعرية زيفهم وضعف حجتهم، وتقديم الدلائل على تعمدهم الإساءة للوطن ورموزه السيادية ورجالاته الأوفياء للعرش والوطن.
نعم، ونقولها على رؤوس الأشهاد… لقد نجحنا في إذلالهم بكشف أجنداتهم الخارجية وفضح عمالتهم الساعية إلى إنهاك المغرب وفتح جبهات صراع بالوكالة تحت مسمياتٍ زائفة، مثل محاربة الفساد وحرية التعبير وغيرها من “كليشيهات إعلامية” مدفوعة الثمن.
نعم، كنا نحن، أنا، وأنت، والآخرون، من داخل المغرب ومغاربة العالم، متراصين ومتحدين في جبهةٍ واحدة تحت سقف الوطن، ومعنا كل رموز السيادة الوطنية.
لقد سجلنا تفاعلًا رهيبًا واستهجانًا قويًا ضد وكلاء الصراع و”الاستقواء” بالخارج. كنا في خندق أصحاب الحق، وهم في خندق من يدفع أكثر… مقابل التهديد والتشهير والابتزاز.
كما كانت “المحاكمة الشعبية” عادلة، حيث تركنا لتلك الأصوات النشاز مساحةً علّها تكذبنا أو ترد علينا بالحجج الدامغة والوثائق القوية… لكن لا شيء من هذا أو ذاك تحقق، واستمروا في لعبتهم المفضلة: الهروب إلى الأمام.
وأعطيناهم فرصةً للرجوع إلى رشدهم، عساه يستيقظ ضميرهم ويدركوا خطأهم، أو يسلكوا طريق الصلح، فالوطن غفور رحيم… لكن لا هذا ولا ذاك وقع. بل زادوا في غيهم، وأمعنوا في قتل ضمائرهم، وأحرقوا كل سفن العودة إلى حضن الوطن.
الطابور الخامس… الطابور السادس… Fifth Column
عادةً ما يُطلق مصطلح “الطابور الخامس” على العملاء والخونة من الداخل. وقد عرّفه قاموس كامبريدج بأنه “مجموعةٌ من الأشخاص الذين يدعمون أعداء البلد الذي يعيشون فيه ويساعدونهم سرًا”، أي أن دورهم يتمثل في التخريب، والبروباغاندا، وإثارة النعرات القومية والطائفية من داخل الحدود، وقيادة المكائد والتآمر والتخوين لإضعاف الداخل.
وتعود جذور هذا المصطلح إلى الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، عندما سُئل الجنرال “إيميليو مولا” في مؤتمرٍ صحفي عن أي الطوابير العسكرية الأربعة ستزحف نحو مدريد وتعلن انتصار جيوش الوطنيين والجنرال فرانكو ضد الجمهوريين، فأشار إلى وجود “طابور خامس” داخل العاصمة مدريد، يشتغل سرًا بعيدًا عن أعين الجمهوريين.
ومنذ ذلك الحين، شاع استخدام مصطلح “الطابور الخامس” للإشارة إلى عملاء الداخل أو العدو الداخلي، وأصبح يُدرس في العلوم السياسية والاجتماعية، كما تم توظيفه في التحليلات الإعلامية وبعض الروايات البوليسية والأعمال السينمائية.
لكن المحاكمة الشعبية التي أقمناها لم تكن ضد “الطابور الخامس”، بل ضد خونةٍ آخرين لا يعملون من داخل المغرب، بل من الخارج، بهدف إضعاف الداخل، وزعزعة ثقة المواطنين في مؤسسات بلادهم، وعلى رأسها المؤسسة الملكية وإمارة المؤمنين والمؤسسات الأمنية.
“طابور جديد” بأجندةٍ خارجية ونوايا تخريبية، تم استقطاب أفراده خارج الوطن، وتلقوا تدريبًا ممنهجًا على كراهية المغرب، وتشويه سمعته، وتلطيخ صورته في الخارج. لذا، فهم لا ينتمون إلى “الطابور الخامس” الذي يرتبط بالعمل من الداخل، بل إلى “الطابور السادس”، ذلك الخندق الذي يحتمي فيه الخونة والعملاء، ليوجهوا طعناتهم الغادرة مقابل عمولاتٍ ومنافع وأظرفةٍ تُقدَّم لهم بسخاءٍ من أعداء الوحدة الوطنية والترابية.
لقد أقام المغاربة الأحرار والشرفاء محاكمةً شعبيةً عارمة ضد هؤلاء الخونة، وكشفوا عمالتهم للخارج. خاضوا ضدهم جولاتٍ وسجالاتٍ فكرية وقانونية وإيديولوجية، لم يقوَ معها أصحاب “الطابور السادس” ولا ممولوهم على مواجهتهم.
لقد صدق فيهم قول الفيلسوف الفرنسي فولتير: “عندما يتعلق الأمر بالمال، فإن الجميع يصبح على دينٍ واحد.”
فخونة الخارج هم عبدة “أدسنس” والعملات الصعبة… إنه دينهم الجديد!
أما المغاربة، فباقون هنا، في الميدان، يحاربون، ويواجهون، ويفككون، ويترافعون، ويؤطرون… بكل فخر، وبتكليفٍ وطني وديني ودستوري… لأن الوطن أغلى وأبقى.