دكتور عادل بنحمزة
يعرف العالم منذ نهاية القرن الماضي تحوّلات عميقة على مختلف المستويات، طالت في البداية الجانبين الاقتصادي والتقني، وانتهت بظهور انعكاسات عميقة على مفهوم الدولة الوطنية وعلى دورها، ومن خلالها دور مؤسسات الوساطة التقليدية المتمثلة في الأحزاب السياسية والنقابات العمالية وغيرها.
كثيرٌ من بلدان العالم تعيش هذه التحوّلات من دون إمتلاك القدرة على التحكّم فيها أو الحدّ من تبعاتها، فإذا كان الأمر على المستوى الاقتصادي يتمّ وفق عملية الإحتواء والدمج من قِبل الرأسمال العالمي الذي بلغ درجة عليا من التركيز، فإنّ تبعات ذلك على المستويين الاجتماعي والسياسي تحتاج إلى بحث أعمق وإلى مساءلة نقدية. ذلك أنّ هيمنة الشركات المتعددة الجنسية وعولمة نمط الإنتاج والإستهلاك، والتحكّم المباشر في عوامل الانتاج، وفرض الاختيارات الاقتصادية على الدول في إطار ما سُمّي بالعولمة ولفترة طويلة، حدّت بشكل كبير من دور الدولة، وبالنتيجة غيّرت مفهوم السيادة، الذي لا يتطابق اليوم تعريفه القانوني التقليدي، مع ما يجري في الواقع.
هذا التحوّل له انعكاس مباشر على المؤسسات التي تشكّل النظام الديموقراطي، من أحزاب وبرلمان وحكومة ومجتمع مدني، فالرأسمالية اليوم في أقصى درجات تطورها، تهدّد القيم الليبرالية التي شكّلت لقرون، أحد تعبيراتها السياسية الرئيسية، فتراجع دور الدولة أو الحدّ الأدنى من الدولة بتعبير آخر، له تأثير مباشر على دور الأحزاب السياسية وبالنتيجة على الديموقراطية.
السبب المباشر لهذا التراجع يعود للإخلال المتكرّر بمضمون التعاقدات الانتخابية التي تشكّل أحد الأسس التقليدية لبناء الشرعية وحيازة السلطة في أي نظام ديموقراطي، والتي تشكّل عقداً بين الناخبين والقائمين على السلطة في دورة إنتخابية منتظمة. هذا الإخلال يرتبط بالتراجع التدريجي عن إمتلاك القدرة على التحكّم في العرض الاقتصادي والاجتماعي الذي يمكن أن تقدّمه أية حكومة منتخبة، وذلك نتيجة ضيق هامش التحرّك على هذا المستوى بسبب تأثير المؤسسات المالية الدولية والشركات المتعددة الجنسية، التي أضحت- فعلياً وبنسب متفاوتة حول العالم- هي من يتحكّم في الاختيارات الاقتصادية، من دون أن تكون منتخبة ومن دون إمكان محاسبتها من قِبل جمهور الناخبين.
هذا الأمر يُطرح اليوم ويفسّر أزمة الديموقراطية التمثيلية وتصاعد مقاطعة العمليات الانتخابية والأحزاب السياسية في العديد من دول العالم. فالعديد من الشعوب تشعر بخيبة أمل من النظام الديموقراطي الحالي والذي أثبت محدوديته.
لقد ارتبط تطور شكل الدولة بتفكّك النظام الفيودالي (الإقطاعي) وظهور الدولة القومية في ظلّ الرأسمالية التي قادتها البورجوازية الصاعدة، والتي سعت إلى السيطرة والتوسع خارج الحدود. فقد انتقلت الرأسمالية من حدود الدولة القومية- الوطنية إلى إمبراطوريات استعمارية مع حركة الإستكشافات الجغرافية خلال القرن الـ15 واكتشاف العالم الجديد عام 1492، ومع الثورة الصناعية وتطور النظام الرأسمالي ظهرت الحركة الإمبريالية كحركة استعمارية توسعية تميّزت بأهمية التركّز المالي وظهور الشركات العابرة للقارات وتصريف فائض الانتاج وتوجيه رؤوس الأموال قصد الزيادة في الأرباح عبر تصديرها خارج الحدود.
التطور الذي عرفته الرأسمالية ومعها شكل الدولة والعلاقات الاجتماعية، تعرف اليوم حدودها القصوى فيما يعتبره الاقتصادي المستقبلي الأميركي جيرمي ريفكن، بـ”نهاية الرأسمالية”. هذه النهاية ليست من صنف الخطاب الإيديولوجي الذي نظّر له في “نهاية التاريخ”، بل هو طرح مناقض تماماً لطرح فوكوياما.
يعتبر ريفكن أنّ الرأسمالية تعرف اليوم تطوراً يؤدي إلى نهايتها الحتمية وبداية عهد نظام اقتصادي جديد يسمّيه “المشاعات التعاونية”، فالبحث المستمر للرأسمالي عن التكلفة الثابتة الصفرية بما يحقق زيادة في الانتاج وفائضاً في الأرباح، لم يبق مجرد طموح يقوده عالم الربح، بل هو واقع اليوم بسبب الثورة التكنولوجية التي قادت الرأسمالية إلى نجاحاتها الكبيرة، بينما تقودها اليوم إلى نهايتها… كيف ذلك؟
الثورة التكنولوجية اليوم تقود إلى تحقيق قوة إنتاجية غير مسبوقة تنزل بالتكاليف إلى ما يقارب الصفر… ما يجعل احتمال الحصول، ولو نسبياً، على السلع والخدمات مجانياً، متجاوزةً بذلك اقتصاد المبادلة في السوق. هذا الأمر ليس فرضية نظرية، بل كما يؤكّد ريفكن، هي واقع يعرفه العالم مع شبكة الإنترنت من 1990 إلى اليوم، بخاصة في بعض القطاعات. فقد بدأت أولى آثار ظاهرة التكلفة الصفرية على صناعة الصحف والمجلات والإعلام بصفة عامة، حيث تدفق المعلومات والأخبار من دون مقابل بلغ اليوم أكثر من 40% من سكان العالم ممن يملكون أجهزة الهاتف والحواسيب واللوحات الالكترونية، حيث أُغلق العديد من الصحف والمجلات وتحوّلت إلى النت (الإندبندنت، نيويورك تايمز…) مثلاً، وحتى محاولات بعضها إعادة منطق التبادل السوقي، عبر اعتماد دفع مسبق، فإنّه في طريقه إلى الفشل بحسب ريفكن دائماً، فبفضل تطور تكنولوجيا الاتصال، تحول ملايين البشر إلى منتجين ومبادلين للأخبار وللأعمال الموسيقية وغيرها…
تجاوز الأمر في السنوات الأخيرة العالم الافتراضي، ودخل العالم اليوم في ما يسمّى “إنترنت الأشياء” و”الميتافيرس” والواقع المعزز المعتمد على الذكاء الاصطناعي، حيث السلع والبضائع الواقعية والطاقة وخدمات لوجستية للنقل عبر الإنترنت، فإندماج هذه العناصر مع بعضها، مع شبكات الاستشعار المنتشرة في العالم وفي كل الفضاءات (الفنادق، المتاجر، المعامل، الطرق العامة، مراكز التخزين، محطات القطارات، محطات الطاقة، المدارس، الأجهزة المنزلية…) والتي تبلغ اليوم 13 مليار جهاز، والتي ستنتقل بحسب IBM إلى 30 مليار جهاز إستشعار حول العالم بعد 4 سنوات فقط، بل سيبلغ الأمر وفق IBM مئة تريليون جهاز في حدود 2030 (وإذا علمنا أنّ تريليوناً يساوي ألف مليار، فإنّ عدد هذه الأجهزة سيبلغ 100 ألف مليار جهاز)، وهذا ما يشكّل بحسب ريفكن، شبكة عصبية عظيمة غير مسبوقة في التاريخ البشري.
هذا التغيّر في شكل الطاقة ووسائل النقل وتكنولوجيا الاتصال، يمثّل بالنسبة لجيريمي ريفكن الأسس للتحول الاقتصادي، فهو المهندس الرئيسي لما أسماه ”الثورة الصناعية الثالثة”، والتي قدّمها في كتابه الذي حمل الإسم نفسه، معتبراً ساعتها أنّ تلك الثورة تحمل إجابة عن تحدّيات الأزمة الاقتصادية العالمية، والأمن الطاقوي والتغيّر المناخي.
والثورة الصناعية الثالثة من خلال سياق بحثه تقتضي أنّها لاحقة لثورتين سابقتين، فقد وقعت الثورة الصناعية الأولى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وكانت نتيجة اقتران ثلاث ظواهر هي: تطور الآلة البخارية واستعمال الفحم باعتباره مصدراً للطاقة و ظهور سكة الحديد باعتبارها وسيلة للتواصل، حيث ولّد تضافر عناصر هذا المركب الثلاثي، اقتصاداً جديداً قام على النسيج والصناعات المعدنية. أما الثورة الصناعية الثانية، فقد حدثت في أواخر القرن التاسع عشر، وكانت ثمرة تطور محرّك الاحتراق الداخلي moteur à explosion واستعمال البترول والكهرباء كمصدري الطاقة، واعتماد التلغراف والهاتف كوسائل اتصال.
أطروحة جيريمي ريفكين بهذا الخصوص واضحة وبسيطة، فعندما يتمّ اكتشاف منظومة طاقوية وتكنولوجيا اتصالات جديدة، يقع تحوّل جذري في الاقتصاد ومن ثم شبكة العلاقات القيمية والإنسانية. وبحسب ريفكين دائماً، تتميز كل ثورة صناعية بالآلية الجديدة، ومصدر جديد للطاقة ونمط جديد من الاتصال، ولذلك، فالثورة الصناعية الثالثة ليست إلاّ إقتران أنظمة الإعلاميات، باستخدام الطاقات المتجددة والشبكات الاجتماعية بإعتبارها وسائل الاتصال الجديدة.
بهذه الصورة خلص ريفكين إلى أنّ العالم قد دخل “ثورة اقتصادية” و”نموذجاً اقتصادياً جديداً” اصطلح عليه ساعتها بالثورة الصناعية الثالثة التي كانت مقدّمة للثورة الرابعة وما تلاها من تحوّلات علمية تكنولوجية. هذا التحول على المستوى الاقتصادي له تبعات على المستوى السياسي، فإذا لاحظنا تقلّص دور الدولة في الاقتصاد، (هذا الأمر يبقى نسبياً باعتبار الأزمة المالية التي عرفها العالم سنة 2008 وكيف تدخّلت الحكومة الفيدرالية الأميركية لإنقاذ عدد من المؤسسات المالية والصناعية من الإفلاس وتكرّر الأمر مع أزمة كورونا)، فإنّ المؤسسات الوسيطة المتمثلة في الأحزاب السياسية والنقابات، تعرف اليوم المصير نفسه الذي يعرفه النظام الرأسمالي، فهي كانت إحدى أدوات الرأسمالية الأساسية في وجهها الليبرالي.
التطور التكنولوجي اليوم، وتطور الشبكات الاجتماعية التي تستفيد منه، منحها تأثيراً كبيراً لم تعد البنيات الحزبية التقليدية قادرة على منافستها، حيث تلعب اليوم الشبكات الاجتماعية عدداً من أدوار الأحزاب السياسية، مثل المرافعة حول العديد من القضايا التي تهمّ المجتمع. هذه الشبكات مع ما يعرفه الذكاء الاصطناعي التوليدي من طفرات خارقة، يبدو أن لا أحد يستطيع الحدّ من نفوذها وتوسعها وتأثيرها، كما أنّها تجاوزت الوظيفة الاحتجاجية أو كونها منصّة للمطالبة بالتغيير والاصلاحات، إلى آلية لإحداث هذا التغيير. ولعلّ الانتفاضات الشعبية التي سُمّيت بـ”الربيع العربي”، والجدل الذي رافق انتخاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ويرافق احتمالات عودته إلى البيت الأبيض، خير شاهد على قوة توظيف هذه الشبكات، علماً أنّ البنية التحتية للاتصالات ما زالت متخلّفة في عدد من بلدان العالم، بشكل لا يساعد في بلوغ جمهور واسع لهذه الوسائط والإستفادة مما تمنحه من إمكانيات، وهو ما سيصبح محدود التأثير بفضل التطور التكنولوجي.
فإلى أي حدّ سيصمد النظام الديموقراطي الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية أمام التحولات الثورية على مستوى الطاقة والتكنولوجيا؟ .