
بقلم: الدكتور عادل بن حمزة

“المستقبل هو ملك أولئك الذين يعتقدون في بهاء ما يحلمون به” أليانور روزفلت
شهدت الأمم المتحدة في الأيام القليلة الماضية دينامية لافتة بخصوص القضية الفلسطينية، خاصة الزخم الذي عرفه الاعتراف بالدولة الفلسطينية من طرف دول كبرى مثل فرنسا وبريطانيا ودول أخرى عبرت عن استعدادها للقيام بالأمر ذاته، هذه الدينامية أعطت دفعة قوية لحل الدولتين الذي يسعى نتنياهو واليمين الإسرائيلي إلى إقباره بشكل نهائي، لا يتعلق الأمر ببداية مسار الإقبار، بل إننا في الواقع نعيش أنفاسه الأخيرة من وجهة نظر إسرائيلية. من هنا يكتسب الحراك الغربي في الأسابيع الأخيرة أهمية قصوى لأنه أنقد – إلى حد ما – حل الدولتين ووجه رسائل واضحة رافضة لتوسيع المستوطنات وضم الضفة الغربية وإعادة احتلال غزة.
بلاشك أن القضية الفلسطينية توجد اليوم في لحظة من أشد لحظاتها تعقيدا، البعض ينظر إلى اليوم التالي، تحت عنوان كبير هو ضرورة تنحي حماس عن حكم القطاع والتخلي عن سلاحها، والبعض الآخر يعتبر أن الافراج عن الرهائن والأسرى، سيكون بمثابة إغلاق قوس طوفان الأقصى والدخول في دورة جديدة من الصرع الفلسطيني الإسرائيلي. الأمر للأسف ليس بهذه البساطة، فالطرف الإسرائيلي الذي تتجاذبه كتل اليمين واليمين المتطرف، بلور منذ فترة طويلة سردية مفادها أن السلام مستحيل مع الفلسطينيين وأن أوسلو كانت خطيئة إسحاق رابين، وأن الجغرافية وتحديات الأمن والديمغرافية والحدود والمياه، لا تسمح بقيام دولة فلسطينية بجوار إسرائيل، هذا الأمر تحول إلى عقيدة في كل مستويات صناعة القرار الإسرائيلي، وقد ساهم العامل الإقليمي المتمثل في إيران وما كان يسمى بمحور المقاومة على مدى سنوات والانقسام الفلسطيني، في تثبيت هذه السردية وجعلها قابلة للتصديق في العواصم الغربية، الهدف من ذلك هو تقديم الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري لإسرائيل مع إيجاد مبررات تعطيل مسلسل السلام، ومع عودة ترامب أصبح الأمر يمثل فرصة تاريخية لايريد اليمين الإسرائيلي إفلاتها لإغلاق قوس حل الدولتين. لكن سياسة الإبادة الجماعية التي انتهجها نتنياهو وبن غفير وسموتريتش في غزة، أضعفت هذه السردية وجعلت لها معنى عكسي ساهم في تغير المزاج الغربي الذي اكتشف متأخرا أهمية حل الدولتين وضرورة لجم تل أبيب ومشاريعها التوسعية التي تقوم بداية على تهجير الفلسطينيين.
موضوع التهجير ليس موضوعا جديدا، ذلك أن كثيرا من المشاريع الإسرائيلية كانت مطروحة بنفس المضمون منذ بداية السبعينات من القرن الماضي، ويمكن اعتبار أحدثها هو ما جاء في التقرير الذي أعده غيورا آيلاند Giora Elland رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي (2004-2006) سنة 2010، والذي كان مسبوقا بدراسة مطولة نشرت له عبر مركز واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في شتنبر 2008، فكرة آيلاند تتمحور أساسا حول إلغاء حل الدولتين من خلال مقترحين للحل، الأول إحداث كونفدرالية أردنية فلسطينية مكونة من ثلاث ولايات وهي الضفة الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة بحكم ذاتي كامل لكل ولاية، بينما تبقى مجالات السيادة حصريا في العاصمة الأردنية عمان، أما المقترح الثاني فيقوم على تبادل الأراضي مع تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر (بين رفح والعريش) وتعويض القاهرة مقابل ذلك بأراضي في صحراء النقب. حسب غيورا آيلاند فإن مسار التقدم فيما يقدمه كحل يعتمد على ثلاثة متغيرات رئيسية: الأول هو إدراك الإدارة الأمريكية بأن الحل التقليدي، أي حل الدولتين، ليس حلًا كافيًا ولا جذابًا للطرفين. المتغير الثاني هو أنه من المهم إيجاد جهة فاعلة مستعدة لاقتراح هذا الحل على الأطراف المعنية، ذلك أن المبادرة يجب أن تأتي من طرفٍ “محايد” ويُنظر إليه بوصفه مهمًا ومؤثرًا وهذا الطرف هو الولايات المتحدة. أما المتغير الثالث هو أن يتم تقديم الأمر كفرصة.
على النقيض من أطروحة غيورا آيلاند، أصدر مجموعة من الباحثين من جامعة برينستون سنة 2012 تقريرا بمثابة ناقوس إنذار أخير يحمل عنوان “استكشاف بدائل لحل الدولتين
في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي”، اعتبر أن المقترحات التي تنطوي على كونفدرالية أو دولة ثنائية القومية أو خيارات إقليمية أخرى، لم تستوفِ الشروط التي تجعل منها أكثر معقولية من حل الدولتين بما يلبي المطالب المشروعة الإسرائيلية والفلسطينية. لذلك حسب التقرير، فإن حل الدولتين هو الحل الأكثر قابلية للتطبيق، لكنه حل له تاريخ انتهاء صلاحيته. وتشير كل الدلائل تقريبًا إلى ضرورة الاستعجال، ويسرد واضعوا التقرير بعضا من تلك الدلائل، كتوسيع المستوطنات الإسرائيلية؛ و مستقبل الحكومة الإسرائيلية التي أظهرت اتجاهًا طويل الأمد في الاتجاه اليميني المؤيد للاستيطان، والمشاكل السياسية والمالية التي تواجهها السلطة الفلسطينية؛ والاتجاهات السائدة في الرأي العام، مثل تزايد خيبة الأمل من حل الدولتين.
ولذلك طالب التقرير من الولايات المتحدة (على عهد أوباما) أن تعمل فورًا على التوصل إلى
اتفاق نهائي لأن الأدلة تشير إلى أننا قد نكون قريبين من تاريخ انتهاء صلاحية حل الدولتين، فالوقت الحالي (سنة 2012) ليس اللحظة المناسبة “لإدارة الصراع” أو انتظار الأطراف لبلورة الحل.
بلاشك أن جنوح اليمين الإسرائيلي بقدر ما يسببه من كوارث وضحايا، فإنه في الوقت نفسه يساهم في بلورة رؤية جديدة لدول المنطقة قائمة على مراجعة ما كان بديهيا في السابق، ولعل تغير اللهجة في مخاطبة الإدارة الأمريكية، وسعي دول المنطقة إلى عقد تحالفات جديدة لحماية أمنها الاستراتيجي بعيدا عن واشنطن، واحدة من “حسنات” تعنت اليمين المتطرف الإسرائيلي. فإلى أي حد يستطيع النظام العربي أن يواجه التحديات الجديدة دون الدخول في مواجهة مباشرة مع ترامب؟ كيف يمكن إعادة الإعمار في غزة دون موافقة كل من إسرائيل والولايات المتحدة وعجز الأوربيين؟ هل يستطيع سكان غزة الصمود في ظل غياب كل أسباب الحياة في القطاع وإلى متى؟ هل يمكن الرهان على المجتمع الدولي وخاصة الغرب الذي عودنا على العجز في اللحظات الحاسمة رغم ما يمتلكه من أوراق ضغط في وقت نرى كثيرين يبحثون عن صفقات مع رجل البيت الأبيض؟