بقلم : ذ. أمين بوشعيب – إيطاليا
بعد فرض الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912، واحتلاله لأكثر من خمسة عقود، مارست فرنسا على امتداد هذه الفترة جميع الوسائل لقمع أصوات الشعب، من نفي واعتقال وتعذيب، واستغلال للثروات وتجويع ونهب، وفرضت غرامة حربية على السكان قدرت بمائة فرنك لكل عائلة، كما قامت بمصادرة دوابهم، والمواد الغذائية التي يمتلكونها لصالح جنودها. لقد سلكت فرنسا نهج استغلال ثروات المغرب وخيراته، واستخدمت المديونية لفرض السيطرة على المملكة، حسب ما ذكره كتاب للباحث الفرنسي (آدم باربي) تناول فيه الدَّيْن العام بالمغرب من وجهة نظر تاريخية اقتصادية. وكشف الكتاب كيف كانت الديون أحد الأسلحة الأساسية، إلى جانب الوسائل السياسية والدبلوماسية والعسكرية، التي استخدمتها القوى الاستعمارية، وعلى رأسها فرنسا.
وفي غضون ذلك قام “المارشال ليوطي” المقيم العام الفرنسي، ومهندس نظام الحماية في المغرب، باختراع مفهوم «المغرب النافع» و«المغرب غير النافع»، وكان هذا المفهوم يعكس نظرة نفعية نابعة من مصالح الإدارة الاستعمارية الفرنسية، التي لم تكن عندها بطبيعة الحال سياسة اجتماعية في مستعمراتها، ولا حتى سياسة اقتصادية تقوم على أسس علمية. بل كانت نظرية تقوم على أساس إنعاش الجهات المؤهلة لتنمية الرأسمال، وتجاهل الأخرى التي تظهر فيها إمكانية النمو ضعيفة، لأن الذي يحكم في نهاية المطاف حسب هذه النظرية هي النتيجة الصافية، ولا يهم أن تؤدي القيمة الاقتصادية المرجوة إلى اختلالات جهوية، بل المهم هو ارتفاع الناتج الخام، ولو أدى ذلك إلى إفقار الجهات الفقيرة، وإغناء الجهات الغنية.
وظلت فرنسا تنهج سياستها هاته إلى غاية 1956 حيث ستضطر إلى الخروج من المغرب، لكن ما الذي تغيّر بعد “الاستقلال”؟ وهل عادت الخيرات والثروات لأصحابها؟ وهل تمّ إقرار العدالة الضريبية لإصلاح ما أفسده المحتل؟
الجواب بالنفي، لأننا لا نزال نرى خيرات البلد تُنهب، وثرواته مُحتكرة، والعدالة الضريبية لا تزال غائبة في برامج الحكومة الحالية على غرار سابقاتها، والامتيازات الكبرى هي الأخرى لا تزال تُمنح للأغنياء واللوبيات على حساب الفقراء من الشعب.
بل يمكن القول إن الفجوة قد ازدادت عمقا بين «المغرب النافع» و«المغرب غير النافع» بعد “الاستقلال”؛ فإذا كنا نتحدث في السابق عن إنعاش جهات، وتفقير أخرى، فاليوم نتحدث عن نشوء طبقة جديدة هي طبقة ” الكومبرادور ” التي قامت بالتحالف والتعاون مع المحتل الأجنبي، لتحقيق مصالحها والاستيلاء على السوق الوطنية، والاستحواذ على الثروة بالوسائل الانتهازية المشبوهة، وكذا للتحكم في مراكز القرار السياسي والاقتصادي داخل دواليب الدولة.
في تقرير حديث للهيئة الوطنية لحماية المال العام، تحدث عن أسماء المستفيدين من ثروة المغرب، وهي لائحة طويلة تضمنت بعض الأسماء أغلبها تنتمي لأحزاب سياسية، وأخرى لما يسمّى ب”رجال الدولة”، هؤلاء كلهم استفادوا من تلك الأراضي المملوكة للشعب بطرق ملتوية، تكريسا لسياسة الريع، وعملا بنظرية المغرب النافع والمغرب غير النافع الموروثة عن الاستعمار الفرنسي البغيض.
كما تحدث التقرير عن أوجه أخرى لنهب المال العام، حيث أشار إلى الاختلاسات المعلن عنها رسميا منذ سنة 2000، حيث أقرت الدولة من خلال لجن تقصي الحقائق بمختلف أشكالها بعدة اختلاسات طالت مجموعة من المؤسسات والقطاعات وهي: صندوق الوطني للضمان الاجتماعي: بـ 115 مليار درهم، والمكتب الشريف للفوسفاط: 10 مليار درهم، وكومانف: 400 مليون درهم، و المكتب الوطني للنقل: 20 مليون درهم، والخطوط الجوية الملكية: قضية مدير عام سابق للخطوط الجوية الذي اختلس مليار سنيتم، إضافة إلى تبذير مبالغ مهمة على صيانة الطائرات بالخارج. هذا، بالإضافة إلى مكتب التكوين المهني، حيث تم الاحتيال على مبلغ 7 ملايير سنتيم في إطار برنامج العقود الخاصة للتكوين. ووكالة المغرب العربي للأنباء: 1.76 مليون درهم، والمطاعم المدرسية: 85 مليون درهم، وجمعية مطاحن المغرب: اختلاس مليار و900 مليون سنتيم، كما أشارتقرير الهيئة الوطنية لحماية المال العام، أيضا، إلى اختلاسات طالت مؤسسات أخرى من بينها: قضية البنك الوطني للإنماء الاقتصادي التي تورط فيها العديد من الشخصيات والبرلمانيين، وقضية المكتب الوطني للصيد البحري، وقضية القناة الثانية “الدوزيم” التي كانت قناة خصوصية وتم تحويلها لقناة عمومية بمجرد إفلاسها وتم ضخ أموال ضخمة من المال العام لإنقاذها من الإفلاس. وقضية خوصصة فندق حياة ريجينسي ب18 مليار درهم، في الوقت الذي كانت تساوي قيمته الحقيقية 27 مليار درهم، أي بفارق 9 مليار درهم. وقضية تفويت معمل ايكوز بدرهم رمزي في الوقت الذي كان قد كلف ميزانية الدولة 40 مليار درهم.
دون أن ننسى الفضيحة الأكبر: فضيحة صندوق المخطط الأخضر الذي تم إطلاقه سنة 2008 بميزانية ضخمة من الأموال العمومية، وفشل في تلبية حاجات المغاربة من المواد الفلاحية والزراعية الموجهة للاستهلاك، إذ كيف يعقل أن يضطر بلد فلاحي أنفق ملايير الدراهم، إلى استيراد الأبقار والأغنام لسدّ حاجيات المواطنين، أليس هذا عار وشنار يتحمّل وزره رئيس الحكومة الذي كان آنذاك وزيرا للفلاحة.
والحقيقة أنني تعمّدتُ ذكر كل الاختلاسات والاختلالات التي ذكرها تقرير الهيئة لبيان الحجم الكبير لهذه الأموال والثروات التي تمّ نهبها وتبديدها على أيدي حفنة من المفسدين، ثمّ للردّ على الأبواق التي تزعم أن المغرب بلد فقير، فلو حدثت مثل هذه الاختلاسات في دولة فقيرة كما يدّعون لأعلنت إفلاسها منذ زمان طويل. ولكن للمغرب ربّ يحميه!
إن المعوّل عليه بعد الله تعالى لتجاوز تحديات الراهن وبلوغ المستقبل بأمان، هو العمل الجاد على تقوية الجبهة الداخلية، من خلال إشراك الشعب المغربي وكافة قواه السياسية، بما فيهم مغاربة العالم، وهو العمل الذي سيكون بمثابة خارطة الطريق لتعزيز الوحدة الوطنية والتماسك الشعبي، ومن ثمّ التغلب على التحديات السياسية والاجتماعية والتهديدات الاقتصادية وانعكاساتها وآثارها المجتمعية، والقضاء على أطماع المفسدين في ثروات البلاد والعباد.
لن نستسلم ولن نفقد الأمل، ولا ندّخر وسعا كي نعبّر بأعلى الصوت، عن أفكارنا وآرائنا، ندعو من خلالها كافة القوى الحية والأطياف السياسية على اختلاف أيديولوجيتها إلى وضع اللبنات الأولى لتشييد صرح هذه الجبهة، لتكون هي الردّ الأمثل على دعاة التطبيع مع العدو الحقيقي والارتماء في أحضانه بزعم حماية المغرب من “عدو مفترض”، ولا تعارض بين هذا ومفهومَ المقولة ” للبيت ربّ يحميه” التي تحدّى بها عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم أبرهة الأشرم، الذي جاء إلى بلاد العرب ليفسد فيها، وكذلك نتحدّى بها كل الفسدة الذين نهبوا الخيرات والثروات، بأن مصيرهم سيكون مثل مصير كل مفسد عبر الزمان، وسيبقى المغرب -بفضل الله- معطاء زاخرا بخيراته التي ستعم جميع أهله الطيبين الصابرين الذين عانوْا وقاسوْا كل تلك السنين الطويلة.
فلاش: يبدو أن مقالتنا الأخيرة” أيها المغاربة لا تنتظروا خيرا من حكومة أخنوش” قد أثارت حفيظة عزيز أخنوش رئيس الحكومة المغربية، حيث عمد في اليوم الموالي لنشر المقال، إلى التأكيد في كلمة له بالمنتدى الجهوي الخامس لمنتخبي حزبه بمدينة سلا، إلى أنه سيتم خلال السنوات الثلاث المقبلة تحقيق الخير والعمل على إرضاء المواطنين.
أولا، ومهما يكن فرئيس الحكومة الحالي ليس كسابقيْه، فهو على الأقل ينصت ويتفاعل مع الصحافة، ولو انتقدت أسلوب تدبيره للشأن العام. وأما الآخران فأحدهما وقح طويل اللسان، كان كلما انتقده أحد ولو كان على حقّ، هجم عليه ونعته بالعمالة لجهات معادية لحزبه، وأما الثاني فكان وجوده كعدمه.
وثانيا، نقول للسيد رئيس الحكومة الحالي، لقد شبع المغاربة من وعودكم حتى أصيبوا بالتخمة، فكم من وعد وعدتَ وأخلفتَ، فكلما أخلفت وعدا أطلقت وعدا آخر، وهكذا دواليك. فأين هذا الخير السيد الوزير، لقد طال غيابه، وكأني بمن ينتظر هذا الخير الذي ما فتئتَ “تبشّر” به، كمن ينتظر” غودو”. نعم فالانتظار -كما يقول الفلاسفة- هو في حد ذاته عبث حقيقي خالص لا تشوبه شائبة، خاصة عندما يكون الشيء المنتظر لا وجود له أصلاً، أو لا معنى له، لأنه مبني على وعود كاذبة. وكل وعد وأنت بألف خير سيدي الوزير “المحترم”.