بقلم : د. عادل بنحمزة
يقول محمود درويش عن ياسر عرفات وهو يغادر بيروت مع مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس، كجزء من تسوية دولية لإنهاء حصار أرييل شارون لبيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 6 حزيران (يونيو) سنة 1982: “كنت شاهداً عليه وهو يستعد لركوب البحر من بيروت إلى ما لا نعرف، إلى مجهول بعيد”
أوري أفنيري، وهو صحافي إسرائيلي دافع عن قيام الدولة الفلسطينية وانتقد طويلاً النزعة اليمينية المتطرّفة في إسرائيل وكان الوحيد الذي زار ياسر عرفات خلال حصاره في بيروت، سأل الزعيم الفلسطيني: “إلى أين أنت ذاهب؟”، فردّ عرفات على الفور: “إلى فلسطين”. يقول درويش: “لم يصدّق أحد منا هذا الجواب الهارب من الشعر، فلم تبد فلسطين من قبل بعيدةً كما تبدو من هذا البحر. كان خارجاً من حصار شارون، ونجا من ملاحقة الطائرات ومن عدسة القناص، ومضى في رحلة أوديسية، محملّاً بنهاية مرحلة، ليقول: أنا ذاهب إلى فلسطين”.
عاد عرفات إلى فلسطين أو ما تبقّى من فلسطين، نجح في أن يقدّم نفسه للعالم في صورة رجل سلام، وتحمّل الصعاب عندما قرّر قبول مسار أوسلو في ظل متغيّرات دولية كبيرة جداً، كان لها أثر واضح على القدرة على الاستمرار في المقاومة المسلحة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتشرذم الصف العربي بعد الاجتياح العراقي للكويت. كان عرفات شجاعاً في المقاومة وكذلك في السلام، لكن الوضع العالمي والإقليمي الجديد، جعل ميزان القوة يميل لصالح إسرائيل، بل إنّ المنتظم الدولي أغلق موضوع فلسطين وترك تدبيرها الأمني والعسكري بيد تل أبيب وعلى حساب اتفاقات السلام وقرارات الأمم المتحدة وأبرزها قرار التقسيم نفسه.
كان شارون يسعى من وراء اجتياح بيروت سنة 1982 إلى القضاء النهائي على منظمة التحرير الفلسطينية، التي منذ خروجها من الأردن بعد “أيلول الأسود” سنة 1970، عملت على استثمار الانقسام اللبناني، لتحويل أرض لبنان إلى طريق عبور من أجل تحرير فلسطين، وهو أمر كان محط خلاف عميق بين التيارات اللبنانية المختلفة، بل إنّ المنظمة مع توالي السنوات، أضحت طرفاً أساسياً في الحرب الأهلية اللبنانية، وأمام عجز الدولة اللبنانية أضحى الأمر، إسرائيلياً، يقتضي تدخّلاً مباشراً لمنع استهداف الأراضي المحتلة من قِبل الفدائيين الفلسطينيين، وقد حقّق شارون أهدافه كلها بل إنّ الجنوب اللبناني ظلّ إلى سنة 2000 تحت القبضة الإسرائيلية.
كثير مما جرى في حصار بيروت يتكرّر اليوم في غزة، فقد سجّلت حركة “حماس” من خلال عملية “طوفان الأقصى” اختراقاً استخباراتياً وأمنياً وعسكرياً استثنائياً على حساب الأجهزة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي، ذلك أنّ عمليتها العسكرية، تبقى نوعية وغير مسبوقة في تاريخ المواجهة بين المقاومة الفلسطينية بتعبيراتها المختلفة على مدار عقود الصراع مع الإسرائيليين. ما شدّ الانتباه في الحقيقة ليس ما أظهره مقاتلو “حماس” من شجاعة وقوة واستعداد، بل ما أظهرته القوات الإسرائيلية من عجز، وهو عجز يمكن تفسيره بأحد احتمالين: الأول، هو أن تكون العقيدة العسكرية لدى الجندي الإسرائيلي قد تأثرت بخاصة بعد الجدال الواسع الذي عرفته إصلاحات بنيامين نتنياهو للمحكمة العليا والنظام القضائي بصفة عامة، وما رافق ذلك من تمرّد بلغ مؤسسة الجيش. والجيش في إسرائيل وضعه مختلف عن باقي جيوش العالم، فإذا كانت الدول لها جيوش، فإنّ الجيش الإسرائيلي له دولة، فيكفي أن نعلم أنّ تعداد الجيش الإسرائيلي بقواته النظامية وقوات الاحتياط يمثل حوالى 10 في المئة من مجموع سكان إسرائيل، وهي وضعية لا توجد في أي مكان آخر في العالم. ويُفسّر ذلك بطبيعة نشأة الدولة نفسها وعجزها عن إقناع محيطها العربي لعقود بالقبول بها كنوع من الإستيطان الاستعماري، بخاصة مع إصرارها على رفض قيام الدولة الفلسطينية.
أما الاحتمال الثاني، فهو أن تكون إسرائيل قد سعت إلى هذه الوضعية بصفة مباشرة أو غير مباشرة لتحقيق جملة من الأهداف، منها جمع شتات الصف الإسرائيلي الذي بلغ درجةً من الانقسام غير مسبوقة في تاريخ إسرائيل، ونزع صورة الضحية عن الفلسطينيين من خلال استثمار الصور والفيديوهات التي نشرتها “حماس”، بخاصة في التعامل مع المدنيين والأهداف المدنية، ثم امتلاك مبرّر قوي لتحييد حركة “حماس” ومعها “الجهاد الإسلامي” عبر دكّ غزة والقيام بعملية عسكرية برّية تنتهي بخروج “حماس” و “الجهاد” من أية معادلة عسكرية في المستقبل، وهو وضع قريب جداً من وضع منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1982.
يمكن اختبار هذه الاحتمالات في ضوء النتائج التي تحقّقت إلى اليوم، فقد استطاع نتنياهو الذي كان منبوذاً في الشارع الإسرائيلي، أن يشكّل حكومة طوارئ أشبه بحكومة وحدة وطنية، واستطاع برفقة اليمين المتطرّف في إخراج العديد من الإسرائيليين من زاوية الراحة والاطمئنان من خلال التذكير بأنّ إسرائيل ما زالت تعيش تهديداً وجودياً، ونجح أيضاً في تسويق صورة الإسرائيلي الضحية بكل ما تحمله من رمزية على مستوى الرأي العام الدولي. كما استعاد نتنياهو أيضاً الاتصال مع كثير من قادة الدول الكبرى التي لم تكن تخفي انتقاداتها لحكومته اليمينية المتطرّفة، بل إنّ ذلك يوفّر له اليوم غطاءً مثالياً لعدم الالتزام بأية قواعد خلال الهجوم المستمر على غزة. وأخيراً، نجح نتنياهو في عكس سردية السلام هو الحل، من خلال كشفه للعالم أنّه لا يمكن بناء السلام مع من يخوض معركة وجود مع إسرائيل.
في المقابل، ما هي الأهداف التي كانت “حماس” تسعى لتحقيقها من خلال عملية “طوفان الأقصى”؟ الأمر الأول يرتبط بالوضع الداخلي الصعب في غزة، فالحركة منذ أن أحكمت قبضتها على القطاع سنة 2007 وهي تواجه معارضة داخلية من باقي الفصائل. صحيح أنّها استطاعت حسمها أمنياً وعسكرياً، لكنها أصبحت في مواجهة مباشرة مع سكان القطاع الذين نفّذوا في الشهور الأخيرة احتجاجات واسعة ضدّ “حماس” تحت شعار “بدنا نعيش”، وكانت تقارير قد فضحت فساد بعض قادة “حماس” وتحكّمهم الكامل في قنوات تهريب السلع أمام الحصار الإسرائيلي للقطاع، لذلك كان ضرورياً للحركة أن تستعيد صورتها كحركة مقاومة. الأمر الثاني يرتبط بالعامل الإقليمي وبخاصة توجس إيران من التقدّم الذي يعرفه مسار التطبيع بين السعودية وإسرائيل، فمشاهد الدمار التي تعرفها غزة اليوم، ربما تسهم في تأجيل عملية التطبيع التي قد تكون محرجة للرياض في توقيتها، بخاصة أمام الرأي العام الإسلامي والعربي.
أياً كانت الأهداف فإنّ ما يجري في غزة اليوم يوضح أنّ سياسة الحصار واستمرار بناء المستوطنات ومصادرة أملاك الفلسطينيين والتمكين لليمين الإسرائيلي المتطرّف وصمت العالم ومباركته الضمنية للقمع الإسرائيلي للفلسطينيين، وإغلاق كل مسارات الحل السياسي والاستخفاف المستمر بالقانون الدولي واتفاقيات السلام، كل ذلك لا يقود سوى لتعزيز الرغبة الجماعية في الانتقام مهما كان الثمن، ذلك أنّ الشعب الفلسطيني لم يعد له ما يخسره أو ما يتنازل عنه، وهذا ما يجعل الفصائل التي ترفع شعار المقاومة والحل العسكري، هي مَن يكتسح الساحة الفلسطينية، ولم يعد الأمر مقتصراً على غزة التي حسمتها “حماس” لصالحها بعد الانسحاب الإسرائيلي، بل الأمر امتد أيضاً إلى الضفة الغربية التي كانت تقليدياً محسوبة على حركة “فتح” التي ضاعت في ردهات السلطة الوهمية وأضعفت منظمة التحرير الفلسطينية المؤسسة الفلسطينية الوحيدة المعترف بها ككيان فلسطيني في ظل غياب الدولة الفلسطينية، فالمنظمة حصلت على صفة “مراقب” في الأمم المتحدة منذ سنة 1974، وهي من وقّعت اتفاقيات “السلام” مع الإسرائيليين، وإلتزمت بموجبها بتشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية التي تُعتبر بمثابة جهازها الخاص، والتي استحدثت بقرار صادر عن المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في دورته المنعقدة في شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 1993 في تونس. صحيح أنّ السلطة الوطنية الفلسطينية وليدة اتفاقيات “السلام”، لكنها كانت من بين البنود في البرنامج السياسي المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ العام 1974.
هل تستطيع “حماس” أو “الجهاد” أو هما معاً فعلياً هزم إسرائيل؟ بكل يقين الجواب هو النفي، فميزان القوى يميل بشكل واضح إلى إسرائيل، لكن هل يمكن لهذه الحقيقة أن تكون ذريعة لإلغاء الخيار العسكري وخيار المقاومة؟ ليس لتحقيق نصر حاسم يسترجع فلسطين كل فلسطين كما يقول السيد إسماعيل هنية، ولكن بصورة أساسية لفرض فتح جدّي لمسارات الحل السياسي، وفرض الالتزام بحقوق الشعب الفلسطيني، هل يمكن أن يتحقق ذلك في ظلّ الانقسام الذي تعرفه الفصائل الفلسطينية، والتي فشلت كل المحاولات لوضع حدّ لها؟ هذا الفشل ليس قدراً، لكنه نتيجة طبيعية لارتباط الفصائل الفلسطينية بأجنحتها السياسية والعسكرية بأطراف خارجية، تريد أن تحارب إسرائيل إلى آخر فلسطيني، وتمثل إيران نموذجاً واضحاً لذلك.
ففي الوقت الذي لا تملّ فيه إيران من التفاوض مع الغرب لتحقيق مصالحها، وتتجرّع بصمت ضربات الموساد الإسرائيلي لبرنامجها النووي وعلمائها على الأراضي الإيرانية، وتحشد فيلقاً تحت مسمّى “القدس” يحارب في كل مكان باستثناء القدس، نجدها تحرّض وتدعم جزءاً من الفلسطينيين الأقل قدرة وعدة إلى مقاومة هي أشبه بعمليات انتحارية، ذلك أنّ أهمية الأعمال النوعية للمقاومة الفلسطينية مثل ما جرى في المستوطنات المجاورة لغزة، يرتبط أساساً بفتح جبهات أخرى متزامنة مثلاً في الجولان أو جنوب لبنان أو الضفة الغربية، أو سيناء أو وادي عربة إلى غيرها من الجبهات التي تمنع تركيز القوة الإسرائيلية في مكان واحد. وإضافة إلى ذلك، هناك حاجة ملحّة لغطاء سياسي، إذ أنّ مآل أي عملية عسكرية في النهاية هي وقف إطلاق النار والقيام بتسوية سياسية، فلا أحد يعتقد أنّ باستطاعة “حماس” تحمّل مواجهة طويلة مع إسرائيل في غزة التي تُعتبر من أكثر الأماكن كثافة سكانية في العالم، وذلك كان واحداً من الأسباب الحقيقية التي دفعت إسرائيل إلى الانسحاب منها.
يبقى دور المنتظم والرأي العام الدوليين، حاسماً في مسار تسوية النزاع، والذي لن ينتهي سوى بقيام الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. هذا ما يمثل التزاماً دولياً إضافة إلى قضايا الحل النهائي، مثل موضوع حق العودة الذي يهمّ ملايين الفلسطينيين حول العالم، غير ذلك فإنّ الوضع سيستمر على هذا النحو، سبات طويل تليه عملية عسكرية ترفع المعنويات وتزيل العتب ويخسر فيها الفلسطينيون أرواحهم وأموالهم، ثم هدنة بعد مفاوضات صعبة، وهكذا دواليك.
لكن لا حلّ في الأفق، فالسردية الفلسطينية منذ اتفاق أوسلو، أضحت عاجزة عن التعبئة ليس فقط في الخارج بل إنّ الأمر طال الداخل أيضاً، والانقسام الداخلي تجاوز التقديرات السياسية والتكتيكات المناسبة للتعامل مع الاحتلال، إلى حقيقة أنّ كل فصيل يخوض أو يعتقد أنّه يخوض معركته مع إسرائيل بشكل منفرد، وليس أقوى دليل على ذلك ما تابعناه قبل أشهر من مواجهة بين “الجهاد الإسلامي” وإسرائيل في معركة كسر عظم، أخذت فيها الفصائل الأخرى موقع المتفرج، وهو ما نشاهده اليوم أيضاً، إذ أنّ “حماس” هي الموجودة في الصورة وصاحبة المبادرة، أما باقي الفصائل، فإنّ حضورها متواضع واقتصر على اغتنام الفرصة، مثل ما فعلت “الجهاد الإسلامي” من خلال أسر بعض الإسرائيليين لتحسين موقعها التفاوضي مستقبلاً، أو الصمت الكامل مثل “كتائب شهداء الأقصى” التي تتبع “فتح”. أما السلطة الفلسطينية، فاكتفت بالقول إنّ ما يحدث أمر طبيعي لانغلاق المسار السياسي، لكنها بهذا الحديث لا تؤكّد سوى أنّها أضحت مجرد قطعة في المشهد الفلسطيني، فهي غير قادرة على الحل العسكري والمقاومة في حدودها الدنيا، ولا هي قادرة على تقديم نفسها كممثل للشعب الفلسطيني، وتستطيع أن تضمن الالتزام وإلزام كل الأطراف الفلسطينية بقراراتها.
الشعب الفلسطيني يدفع اليوم ثمناً مرّة أخرى في مأساة إنسانية ممتدة أمام صمت مخجل للعالم، الذي ما زال البعض فيه يرى أنّ تعرّض اليهود للمحرقة كافٍ ليحتكروا وحدهم وضع الضحية في التاريخ. وفي ذلك يقول يوري أفنيري “الهولوكوست منح اليهود حصانة أخلاقية ورخصة لفعل أي شيء يرغبون في فعله”.