بقلم : د. عادل بنحمزة
شهدت العاصمة المغربية الرباط الأسبوع الماضي انعقاد الدورة الثالثة لدول أفريقيا الأطلسية بحضور 21 دولة من القارة مطلّة على المحيط الأطلسي، وهي مبادرة مغربية مبتكرة تشقّ طريقها بهدوء لتشكّل أفقاً جديداً للمغرب من خلال ما تفتحه له من بدائل وشراكات في فضاء إنساني واقتصادي واعد يضمّ أهم اقتصاديات القارة.
الدورة الأولى عُقدت في الرباط في 6 حزيران (يونيو) 2022، وقال المنظّمون حينها إنّ اللقاء يسعى إلى بلورة رؤية أفريقية جماعية تهمّ الواجهة الأطلسية للقارة، باعتبارها فضاءً حيوياً يساهم في إعادة الاعتبار للهوية الأطلسية لأفريقيا وفضاءً للتعاون الاقتصادي والأمني والثقافي بما يخدم المصالح الاستراتيجية للقارة.
هكذا وعلى مدى ثلاثة أيام، ناقش المشاركون في هذا الاجتماع، ثلاثة محاور رئيسة تتعلّق بـ”الحوار السياسي والأمن، والسلامة”، و”الاقتصاد الأزرق والربط”، و”البيئة والطاقة”. اللقاء الثالث عُقد في نيويورك في 23 أيلول (سبتمبر) 2022 وتميّز بإطلاق برنامج عمل للدول المشاركة يمثّل خريطة طريق لتحقيق الأهداف المشتركة التي تمّ الاتفاق عليها في اللقاء الأول. وتيرة الاجتماعات والتزام الدول الأفريقية الأطلسية، يُظهران أنّ الأمور تسير بشكل جدّي ربما يتجاوز في السنوات القليلة المقبلة الصيغة الحالية إلى منظمة إفريقية للتعاون، تتيح للمغرب بصفة خاصة تجاوز جمود اتحاد المغرب الكبير، والذي يجعل المنطقة المغاربية الأقل اندماجاً من بين مناطق القارة.
المبادرة المغربية تدخل في إطار رؤية المغرب للقيمة الاستراتيجية للمحيط الأطلسي، وكيف يمكن استثمارها في إطار تعاون جنوب – جنوب وفق منطق رابح رابح، هذه المبادرة تدخل أيضاً في إطار قراءة جيواستراتيجية عميقة للتحوّلات على الساحة الدولية، ذلك أنّ العالم اليوم يشهد عودة كثيفة للاتحادات الإقليمية والجهوية في ظرفية أصبح من الصعب على الدول الدفاع عن مصالحها بشكل منفرد، بخاصة أنّ دول المنطقة، بحسب وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، تواجه تحدّيات عديدة، أبرزها التحدّيات الأمنية، وذلك في ظلّ تصاعد التهديدات الإرهابية والجريمة المنظّمة، إضافة إلى تحدّيات الأمن البحري، إذ أنّ 90 في المائة من الحوادث البحرية بما فيها القرصنة، يتمّ تسجيلها على طول ساحل المحيط الأطلسي في الواجهة الأفريقية، كما أنّ منطقة أفريقيا الأطلسية تحطّم كل الأرقام القياسية لجهة قابلية التأثّر بالمناخ، إضافة إلى التحدّيات المرتبطة بالتنمية البشرية والاقتصادية والتنمية المستدامة.
المبادرة المغربية تأتي أيضاً في ظلّ الجمود الذي تسعى بعض الدول الأفريقية إلى فرضه على الاتحاد الإفريقي، بينما يشهد الاتحاد في السنوات الأخيرة جملةً من التغييرات تهدف إلى جعله رقماً أساسياً في ما يتمّ صوغه من مستقبل للعالم. فالدول الأفريقية الأطلسية الـ23 تشكّل 46 في المائة من سكان القارة، كما أنّها تمثل 55 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للقارة، وتحقّق أنشطتها الاقتصادية 57 في المائة من التجارة في البرّ الرئيسي، كما أنّ المنطقة تُعتبر ملتقى جزء هام من التجارة البحرية العالمية وما تمثله أيضاً من غنى على مستوى الروابط الثقافية.
وزير الخارجية المغربي أكّد خلال افتتاح الإجتماع الوزاري الأول، أنّ دول المحيط الأطلسي الأفريقية، ورغم المزايا التي تتمتع بها، لا تستفيد سوى من 4 في المائة فقط من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في الواجهة الأطلسية، في الوقت الذي تستفيد فيه الدول المطلّة على المحيط من الضفة الشمالية من 74 في المائة، مشيراً إلى أنّ الدفاع بصوت واحد عن المصالح الاستراتيجية للقارة، هو السبيل الوحيد لحصد ثمار هذا الفضاء الواعد بالفرص، ذلك أنّ أفريقيا الأطلسية تمتلك كل شيء تقريباً لتكون منطقة سلام واستقرار وازدهار مشترك، بحسب بوريطة.
الحضور المغربي في أفريقيا عرف في العقدين الأخيرين تحوّلاً ببعد استراتيجي قاده شخصياً العاهل المغربي الملك محمد السادس الذي قام بقرابة 47 زيارة رسمية لدول القارة شملت 25 بلداً، تُوّجت بأكثر من 1000 اتفاقية مع مختلف بلدان القارة الأفريقية شملت المجالات التجارية والصناعية والثقافية والرياضية، كان فيها لدول غرب القارة النصيب الأكبر، حيث يعرف الحضور المغربي في قطاع المصارف والتأمينات والاتصالات والطيران والزراعة حضوراً لافتاً، فقد بلغ حجم الاستثمارات المغربية في القارة 2.3 مليار دولار، لتكون بذلك ثاني مستثمر أفريقي في أفريقيا وأول مستثمر أفريقي في غرب القارة.
تظهر كذلك أهمية الحضور المغربي في القارة الأفريقية في الدور الذي يلعبه المكتب الشريف للفوسفات OCP في أفريقيا المهدّدة بشكل أكبر بأزمة غذاء حادّة نتيجة للحرب الروسية على أوكرانيا، والتي من المرجح أن تتفاقم بعد الأحداث الأخيرة في البحر الأسود التي تأتي على خلفية وقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتفاقية البحر الأسود للحبوب، فالشركة المغربية تسيطر على أكثر من نصف سوق الأسمدة في القارة السمراء، بل أضحى الفوسفات أداة سياسية ودبلوماسية لتكريس التعاون جنوب – جنوب، يظهر ذلك جلياً في عدد من المشاريع الكبرى على مستوى القارة الأفريقية، غير أنّ التحوّلات الجارية، وبخاصة الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة، تلقي بظلالها على قدرة المغرب على الوفاء بالتزاماته تجاه القارة الأفريقية وغيرها من الأسواق العالمية، باعتبار أنّ المغرب مستورد للطاقة، وهو ما يؤثر في قدرته الإنتاجية، هذا الأمر سبق لمعهد الشرق الأوسط أن حذّر منه، بخاصة في علاقته بالأمن الغذائي في أفريقيا.
هنا تبرز أهمية أنبوب الغاز نيجيريا – المغرب ذي الهوية الأفريقية الأطلسية الخالصة، والذي سيصبح أطول أنبوب للغاز في العالم، وتزداد أهمية هذا الأنبوب الذي يشمل كل دول غرب أفريقيا، عندما نعلم أنّ مختلف الدراسات المتخصّصة تشير إلى أنّ الغاز الطبيعي سيتصدّر مصادر الطاقة على المستوى العالمي سنة 2100، كما أنّ الرهان على المستوى الدولي بخصوص تخفيض نسبة ثاني أوكسيد الكربون، يفرض البحث عن مصادر طاقة أقل تلويثاً، وهو ما يحقّقه الغاز الطبيعي الذي يلوّث أقل بـ 29 في المائة من النفط و 44 في المائة من الفحم، وما يفرض الغاز الطبيعي بديلاً، يكمن في كون الاعتماد على الطاقات المتجدّدة ما زال في بداياته ويحتاج ثورة تكنولوجية لجعلها ممكنة الاستغلال على نطاق واسع بجدوى اقتصادية، فقد أصبح الغاز منذ بضع سنوات المصدر الأول للطاقة في دولة بحجم الولايات المتحدة الأميركية.
هذه الأهمية المتزايدة للغاز الطبيعي، تجعله في قلب الصراعات المستقبلية على الساحة الدولية، بل إنّ جزءاً من الصراع حول سوريا منذ أكثر من عقد، إنما تفسّره الرغبة في التحكّم في معابر الغاز في المستقبل، وبخاصة في اتجاه أوروبا، حيث يشكّل الغاز الطبيعي إمتيازاً كبيراً لروسيا وعبره تريد استعادة موقعها في الساحة الدولية، وهو ما يتحقّق اليوم بشكل لافت يتجاوز مناطق الصراع التقليدية، إلى القدرة على اختراق نخب وأنظمة سياسية، كما يجري مع فرنسا والولايات المتحدة وطيف واسع من أقصى اليمين الأوروبي. فهل تمكّن أفريقيا الأطلسية من توفير الغطاء الأمثل لدور أقل للطاقة في الصراعات المستقبلية حول العالم؟