
الدكتور عادل بن حمزة

“الحقيقة هي الضحية الأولى للحروب”
جيمي كارتر
تسود قناعة على نطاق واسع بأن الحرب في أوكرانيا لا تتعلق بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل هي مجرد صراع على المصالح والنفوذ، أكبر ضحاياه هو الشعب الأوكراني ووحدته الترابية وكذلك الحقيقة كما قال كارتر.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قام النظام الدولي على منطقين متناقضين، الأول يعتمد على الأهمية المطلقة لمصالح الدول الكبرى في إطار تقسيم النفوذ خلال فترة الحرب الباردة، حيث يغيب القانون الدولي وتقتصر الأولوية على المصالح، ويعد نموذج مجلس الأمن الذي يعتمد حق النقض (الفيتو) للدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، دليلاً على أن الأمر بعيد عن المبادئ القانونية، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد واشنطن بقيادة العالم، استمر النظام الدولي في خدمة مصالح القوى الكبرى بدرجات متفاوتة، ظهر ذلك في العراق، أفغانستان، ليبيا، كوسوفو وغيرها، أما المنطق الثاني، فهو استغلال القانون الدولي لتلبية مصالح حلفاء القوى الكبرى، وتحويل النزاعات الإقليمية إلى وسيلة للضغط والابتزاز، بهدف تعزيز التبعية.
الحرب في أوكرانيا هي نقطة التقاء بين لاعبين رئيسيين على الساحة الدولية، هذه الحرب كانت متوقعة على الأقل بعد التدخل الروسي في جورجيا عام 2008، ووضحت الأمور أكثر بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014، بعد سنوات من التوترات بين موسكو وواشنطن.
اللافت للنظر أن الغرب تبنى سردية حول أسباب المواجهة لا تصمد أمام الحقائق ولا تدعمها الوقائع. الواقع يقول إن الغرب تراجع عن التزاماته اتجاه روسيا، خاصة فيما يتعلق بتوسيع حلف الناتو نحو الشرق، وجذب أوكرانيا للتخلي عن “حيادها” الذي تم تأطيره باتفاقية بودابيست عام 1994، والتي بموجبها تخلت كييف عن ترسانتها النووية مقابل ضمانات اقتصادية من واشنطن وموسكو.
كان من المفترض أن تكون كييف جسراً بين الغرب وروسيا بدل أن تتحول إلى نقطة تماس وصدام. محاصرة روسيا في مجالها الحيوي بدأ منذ بداية الألفية الثانية، من خلال ثورات سلمية تهدف إلى إسقاط الأنظمة الحاكمة في الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي وإدخال نخب جديدة تسهم في عزل تلك الدول عن موسكو وجعلها موالية للغرب.
ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2003، شهدت جورجيا “الثورة الوردية” عندما دخل زعيم المعارضة ميخائيل ساكاشفيلي إلى قاعة البرلمان ليطالب الرئيس إدوارد شيفرنادزه بالرحيل، ممسكاً بوردة حمراء.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2004، اندلعت احتجاجات في أوكرانيا ضد الرئيس فيكتور يانكوفيتش، عُرفت بـ”الثورة البرتقالية” بقيادة كل من فيكتور يوشينكو ويوليا تيموشينكو، لكن واشنطن فشلت في تحقيق أهدافها، ففي جورجيا، تراجعت شعبية ساكاشفيلي إلى أدنى مستوياتها، وكانت البلاد في عهد حكمه تمر بكثير من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. أما في أوكرانيا، فقد انتهت “الثورة البرتقالية” بفضائح فساد مالي واستغلال النفوذ، وانتهت أيقونتها يوليا تيموشينكو، التي شغلت منصب رئيسة الوزراء، معتقلة في السجون الأوكرانية.
الانتخابات الرئاسية في 2010 أعادت الرئيس المخلوع يانكوفيتش إلى السلطة، وهو ما شكل سابقة في تاريخ الثورات. وفي 2014، تم الإطاحة به مجدداً في ثورة مشابهة، بدأت بمظاهرات واعتصامات في كييف في تشرين الثاني/نوفمبر 2013، وهو ما اعتبرته موسكو مبرراً للسيطرة على القرم ودعم الانفصاليين في دونباس وغيرها من المناطق شرق أوكرانيا، وصولا إلى إعلان صريح للحرب عليها من قبل بوتين.
هذا المسار الذي كان من المفترض أن يعكس تصورا استراتيجيا للغرب بزعامة أمريكا لكيفية تقليم أظافر الدب الروسي وتخليصه من رغبة استعادة تراث وموقع الاتحاد السوفياتي، تحول إلى مجرد وجهات نظر مختلفة في قمرة القيادة بالبيت الأبيض تتأثر بطبيعة ساكنه، حتى أن المكتب البيضوي الذي كان يدخله الرئيس الأوكراني كبطل حرب، تحول بتعبير السناتور الديمقراطي كريس مورفي إلى مجرد “كمين” لإنجاز صفقة معادن مع استسلام غير مشروط، أظهر بوضوح الفجوات في الدعم الغربي لأوكرانيا، حيث أصبحت السياسة الأمريكية أكثر قابلية للتغير وفقاً للظروف السياسية المحلية في غياب أي رؤية استراتيجية.