
بقلم : ذ. أيوب الرضواني

كما توقعنا (ولم نتوقع!) غادر الشاب الحبيب المالكي ذي الـ 79 سنة 19 + (30×2) منصبه كرئيس للمجلس الوطني للتربية والتكوين والبحث العلمي، وخلفته الشابة رحمة بورقية 76 سنة 16 + (30×2)، إحدى الوجوه القديمة في الميدان والأكثر انتقادا لطرق إصلاحه الحديثة! توقعنا إرجاع شكيب، لكن الميساج سقط برحمة.
السيدة (بورقية) ستكون مطالبة، من خلالها منصبها الجديدة، بوضع حلول جذرية لأربع أزمات هيكلية يعاني منها التعليم المغربي:
1☆ أزمة النموذج القيمي والهوياتي: منذ الستينات، وحتى نهاية التسعينات، ظلت المدرسة الوطنية بمفهومها الأوسع (بما فيها الجامعة) حلبة لتفريغ وتنفيس، وخلق توازنات بين مختلف التيارات الإيديولوجية لأهداف سياسية عليا.
شهدنا استخدام المدرسة لضرب يسار بداية الاستقلال القوي، بحجة الحفاظ على الهوية الإسلامية للبلاد بالتعريب من جهة، وبإدخال ومحاولة إحلال مواد التربية الإسلامية محل الفلسفة من جهة ثانية.
الدين الإسلامي (كما يُراد له أن يكون) اعتبر آنداك مُسكِّناً للنفوس، زارعا للعقلية الخوارقية والجزاء المُؤجل (الفقراء يدخلون الجنة!) مع التسليم بالمكتوب الفوقي (القدر) والإنساني (طاعة ولي الأمر). أما الفلسفة، فنُظر إليها كخطر وجودي على أصحاب الحال، باعتبارها بُعبعا يدعو لاستخدام العقل وإيلاء الاهتمام والأولوية للإنسان، لكونه المالك لمفاتيح التغيير الأرضي.
مع بداية الألفينات، تغيرت الخطة. فبعد التأكد من مـ.وت اليسار، نزل أصحاب الحال على مقررات التربية الإسلامية تشذيبا وتخفيفا بحجة محاربة التـ.طرف وزرع التسامح. تم إفراغ المناهج الدينية مما تبقى من محتواها النافع، والاكتفاء بتلقين المتعلم ما هو شعائري/مشاعري: فرائض الوضوء ونواقضه، جنبا إلى جنب مع التسامح مع الخصوم والأعداء والدعوة لهم بالرحمة والمغفرة!
قبل الألفين حاربوا العقل (الفلسفة) بالدين الطقوسي، ووقفوا أمام دمقرطرة المعرفة بتعريب تعليم العامة، واحتكار التعليم باللغات الأجنبية لكبراء القوم. أما اليوم، فلم يبق لنا لا دين ولا فلسفة، وأبناؤنا لم يعودوا يُتقنون لا لغة عربية ولا فرنسية. النتيجة: تلميذ مسخ بهلول، لا يعرف رأسه من رجليه، إلهه الهاتف، مُحركه التيك-توك والإنستغرام، وقدوته لاعبو الكرة ذكورا ومؤثرات المـ.ؤخرات إناثا.
2☆ ضرورة التطابق بين رؤية الإصلاح وتفعليه على أرض الواقع.
منذ الاستقلال ونحن نواجه (ديكالاج) بين إقرار الإصلاح نظريا، وتطبيقه على الأرض. تفاوت مرده عاملين أساسيين:
● العامل الأول: عدم التطابق بين زمن الإصلاح والزمن السياسي: الحاجة إلى إصلاح التعليم لم تكُ يوما قرارا سياسيا سياديا عميقا، بقدر ما كانت استجابة ظرفية لأزمات سياسية يمر بها المغرب.
فخطة التعريب جاءت مع مقلب مَغْرَبة الاقتصاد في السبعينات. الميثاق الوطني للتربية والتكوين حل مع تعرض البلاد لأزمة قلبية بداية التسعينات، والحاجة لضمان انتقال سلسل للعرش. المخطط الاستعجالي مع ارتداد الدولة عن نفسها الإصلاح بعد 9 سنوات من بداية العهد الجديد، وإحلال مطنق الأمر المباشر وكُن فيكون محل العمل المؤسساتي (ولذلك سُمي استعجاليا!).
أما الإقرار بفشل “الاستعجالي” فزارنا مع نسمات الربيع العربي، والقانون الإطار بما حمله من إعادة (فرنسة) التعليم أتى مع رجوع أصحاب الشكارة للساحة بقوة، والحاجة الرأسمالية لخريج تكوين مهني يملك من الذكاء ما يشغل به آلات التماسيح، ومن الغباء ما يصبر به على واقع يحفل بتناقضات بعضها فوق بعض.
زمن كل إصلاح -إذن- ينتهي بنهاية عُهدة من جاؤوا به، لنبدأ مرحلة جديدة، ونُصفِّر العداد مرة أخرى، وهي غادية.
هنا وجب وضع ملحوظة مهمة: إصلاح حقيقي للتعليم يعني فتح المجال أمام العامة لتسلق السُّلم الاجتماعي ومعه الاقتصادي والسياسي، أي توزيع عادل للثروة، وتناوب سَلِسٌ على السلطة!
● العامل الثاني: عدم التطابق بين المشروعية القانونية والاجتماعية. وهذه معضلة لا يعاني منها التعليم فقط، بل جل قطاعات هذا الوطن العزيز. الوثائق والقوانين المُؤطرة لأي إصلاح (المشروعية القانونية) يتم إخراجها وكأنها ناتجة عن حوار مجتمعي مُوسع بشكل أو بآخر.
لكن عند التطبيق، يظهر ذلك الإصلاح بصورة أوامر مُنزلة من كوكب آخر. والحقيقية أنه نَزل من عقليات ومناخ وأجواء مغايرة لما تعيشه العامة من الناس، وما يُعانيه الفاعلون والمُشتغلون بالميدان. بعيدا عن لا مركزية الميثاق الوطني، ولا تمركز القانون الإطار وباقي تلك الخزعبلات!
4- أزمة الجودة: وأول محاورها جودة العنصر البشري عامة، والمُدرس خاصة. مُعلم في الغالب الأعم غير راضٍ عن مهنته ولا فخور بها في ظل الظروف التي يشتغل فيها. قلق من الناحية المادية بالمطالبة بأجر يليق بالمهمة الموكلة إليه، ومعنويا في خضم حرب شعواء لتبخيس المهنة والمُنتسبين لها، وتصويرها -بل وضعها- كمهنة من لا مهنة له، في ظل الامتصاص الحصري للكفاءات من قطاعات بعينها؛ الطب، التجارة، الهندسة، الداخلية والدفاع؛ كمهن آمنة، لا خوف على مُنتسبيها ولا هُم يحزنون.
ثاني الأضلاع جودة المناخ المدرسي. مناخ لا يمكن فصله عن مناخ عام يُصدر الشلاهبية، الشناقة والفراقشية كنموذج للنجاح، مع وضع المال، البيسطون و”الأصل” مداخل حصرية للنجاح كمثل فضيحة مباراة ولوج “حرفة” المحاماة (كونكور ولد من نتا؟) واذهب أنت وتعليمك للجـ.حيم!
تالث الركائز جودة المنهج، أيْ تطابق ما يتلقاه المتعلم داخل المنظمومة التربوية مع ما هو مُنتظر من تلك المنظومة. وإذا كانت مهمة المدرسة -نظريا- إعداد مُتعلم قادر على الاندماج في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وخلق قيمة مضافة لنفسه ولمجتمعه، فإن واقع الحال يُخبرنا أن المدرسة المغربية ماضية في الاغتراب عن واقعها، فلم تعد مولِّدة للقِيم بكافة أشكالها، ولا يُنظر لها -على نطاق واسع- على كونها نافذة التلميذ لتحقيق الرقي الاقتصادي والاجتماعي داخل مجتمعه.
مع معضلة (المضمون) يُطرح مشكل أدوات التقييم. بمعنى هل نعتمد المعايير الدولية (ما ينبغي للمتعلم اكتسابه؟) ونحن الدولة المندمجة في سلسلة القيمة العالمية، المُعتمد اقتصادها في 87% منه على الخارج؟ اقتصاد يبدو في عهد أكوا حكومة وكأنه صُمِّم لخدمة البراني، ومَصْمَصة (المُواتنين)؟ أم نُقِّرُ معايير وطنية، ونقيس على أساس ما يكتسبه المُتعلم المغربي فعليا، داخل مدرسته الوطنية وبيئته المغربية؟!!
هاته المحاور التي فصلنا فيها تفصيلا، هي أزمات استعرضتها السيدة (رحمة بورقية) دجنبر 2023، في محاضرة بمؤسسة أبو بكر القادري، كَعالمة اجتماع ورئيسة سابقة للهيئة الوطنية لتقييم التعليم بالمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي.
بمنطق من “خِصْلة شعرها لَقِّم لها”، اخترنا تذكير السيدة (رحمة) بما يجب القيام به في منصبها الجديد، واختبار “التطابق بين رؤيتها للإصلاح” وهي خارج المعمعة، مع “تطبيق نفس الإصلاح” وقد انغمست يدها في العصيدة بأمر ملكي. مع مُتمنياتنا بأن يتطابق زمن السيدة رحمة البيولوجي (76 سنة) مع الزمن اللاّ إصلاحي لأكوا حكومة والزمن اللاّ سياسي لعصر الأخْنَشة.