بقلم : الصحافي أمين بوشعيب/ إيطاليا
خلال محاورتي لأحد الأصدقاء عما يحدث في غزة، سألني عن قوله تعالى: ( ضُربت عليهم الذلةُ أين ما ثقفوا ) فقال: أليست هذه الآية تخص بني إسرائيل؟
قلت: بلى. قال: فكيف حكم الله عليهم بالذل والهوان والصغار، وجعله أمرًا لازمًا لا يفارقهم، أينما وُجدوا، ثم كيف تفسّر ما يقومون به من علوّ فوق الأرض، غير آبهين لأحد؟
قلت: عليك أن تكمل قراءة الآية ليتّضح لك المعنى، وقرأتُ عليه: (إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)
قال: ما معنى ذلك؟ قلتُ: نعم لقد ضرب الله الذلة والمسكنة على اليهود، وجعلها ملتصقة ومحيطة بهم في كل زمان ومكان، أينما حلّوا وارتحلوا، ولكن هناك استثناء. قال: وما هو هذا الاستثناء؟
قلتُ: إن الله تعالى كرم بني إسرائيل في العهد الأول، وفضلهم على العالمين آنذاك، وجعل فيهم أنبياء وملوكا، ورفع شأنهم، وذلك بسبب تمسكهم بحبل الله. وقد أدام الله لهم العزة فترة تمسكهم بحبله، فنصرهم، ومكّن لهم أيام موسى، ويوشع، وداود، وسليمان، عليهم الصلاة والسلام. فلما تخلّوْا عن أمر الله وهُداه، واتبعوا أهواءهم، قطع عليهم منذ ذلك الحين حبله ومدده.
قاطعني صديقي قائلا: إذن من أين يستمدّون كل هذه القوة؟ قلتُ: من الناس. قال: ومن هم هؤلاء الناس؟ قلتُ: الدول التي تدعمهم. فبعد قرون من الشتات عاشها بنو إسرائيل في أرض الله الواسعة، أصدرت بريطانيا سنة 1917 وعدا مشؤوما يدعم إقامة وطن قومي لهم، حيث تمكنوا عام 1948 من تأسيس دولة إسرائيل في فلسطين. وبعد ذلك انضمت عدة دول غربية، على رأسها الولايات المتحدة، فقدموا لها -وما زالوا- كل أشكال الدعم من مال وسلاح.
وأردفتُ قائلا: ألا ترى معي يا صاحبي أنه لولا الحبل البريطاني والأمريكي لما كانت هناك دولة اسمها إسرائيل، ولظلّ بنو إسرائيل في الشتات يسامون العذاب الشديد؟ وهل تعلم أن إسرائيل لا تستطيع البقاء يوما واحدا دون الدعم الأمريكي؟
سكت صاحبي ولم يجب. ثم أردفتُ قائلا: لكن هناك حبل لا يقل خطورة، إن لم أقل أشدّ خطورة من حبل الدول الغربية، قال: من تقصد؟
قلتُ: إنه الحبل العربي اللعين، الممدود من قِبل الحكام العرب والمسلمين المطبّعين مع الكيان الصهيوني. ألا تعلم أن بعضهم يمدّ الصهاينة بالمال والوقود والغذاء، إما بطريقة مباشرة أو من شراء بضائعهم العسكرية والاستخبارية من أجل إنعاش خزينتهم التي أنهكها طوفان الأقصى، وأن قطع غيار الأسلحة والمواد الغذائية تتدفق على إسرائيل بانتظام من تركيا ومن بعض الدول العربية؟ ألم تر كيف هُرع الحكام العرب بعد طوفان الأقصى إلى قمع شعوبهم التي تطالب بفتح الحدود من أجل تحرير فلسطين؟
وأقسمُ غير حانث بإذن الله، أنه لو غاب الحكام العرب أسبوعا واحدا فقط، لتمكّن كل المسلمين، في اليوم الثامن، من الصلاة في الأقصى.
نظر إليّ صاحبي، نظرة تحمل نوعا من التشكيك، وقال: إن المسألة معقدة جدا، ومن الصعب تعميم هذا الحكم على جميع الحكام العرب ودوافعهم لدعم إسرائيل، فهناك بعض الدول العربية تربطها تحالفات مع إسرائيل تستند إلى المصالح المشتركة مثل الأمن الإقليمي أو الاقتصاد. ومنها من يسعى إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل من أجل تحقيق التطبيع السياسي مع المجتمع الدولي، وخاصة القوى الغربية التي تدعم إسرائيل. ومنها من يتعاون مع إسرائيل، من أجل المساعدات الخارجية، المتمثلة في الدعم المالي أو العسكري من الدول التي تمتلك علاقات وثيقة مع إسرائيل مثل الولايات المتحدة. ومنهم من يروج للتقارب مع إسرائيل كجزء من استراتيجياتها لمواجهة تحديات إقليمية.
سألتُ صاحبي: وهل هذه المبررات الافتراضية تعفيهم من واجب الوقوف إلى جانب إخوتهم في الدين والعروبة؟ هل وصل بهم العجز إلى الحد الذي لا يستطيعون تحريك المساعدات الغذائية لإنقاذ الأطفال الذين يموتون جوعا؟
تبّا لكل المصالح السياسية والاقتصادية، ولكل التحالفات الاستراتيجية، التي تجعل هؤلاء الحكام يخونون قضية الشعوب العربية والإسلامية من أجل الحفاظ على كراسيهم.
على هؤلاء الحكام أن يدركوا أن الواقع المعيش اليوم ما هو إلا استثناء من أصل، ووضع طارئ توافرت له مسببات عارضة، عما قليل ستزول.. وبزوالها وزوالهم، ستلفظ إسرائيل أنفاسها الأخيرة.
أتدري يا صاحبي ما يثير العجب والاستغراب؟ قال: أي شيء؟ قلتُ: هو منظر هؤلاء الحكام الخانعين الذين يبتغون عند إسرائيل العزة والحماية. ألم يروا كيف حطّم رجال المقاومة الفلسطينية أسطورة “الجيش الذي لا يقهر” والذي تخوّف به إسرائيل الحكام العرب؟ ألا يعلمون أن القوة العسكرية الإسرائيلية قد فقدت توازنها ووعيها بعد صدمة طوفان الأقصى؟ وأنهم لم يستطيعوا حتى حماية أنفسهم عند المواجهة مع رجال المقاومة من مسافة الصفر؟
قاطعني صاحبي قائلا: ألا ترى أن ما ترتكبه إسرائيل من مجازر وعقاب جماعيّ للفلسطينيين، هو بسبب ما قامت به حماس يوم السابع أكتوبر؟ قلتُ له: إنه لمن السذاجة طرح مثل هذه الأفكار. قال: ولمَ؟ قلتُ: لأنه لو لم تكن إسرائيل، لما كانت حماس؟ قال: ماذا تقصد؟ قلتُ له: يعني أن الاحتلال هو سبب وجود حماس وغيرِها من فصائل المقاومة. أوَ ليس من حق الفلسطينيين الدفاع عن أرضهم وبلادهم؟
يا صاحبي، إن المقاومة الفلسطينية لا تدافع عن الأرض فقط، وإنما تنوب عن الأمة في الدفاع عن الأقصى المبارك، وبيت المقدس الشريف، وتخوض حربا ضد التمدد الصهيوني، الذي يسعى إلى بناء إسرائيل الكبرى التي تشمل الجزء الشمالي من شبه الجزيرة العربية، بما فيها مكة والمدينة المنورة. وهي تضم أيضا بلاد الشام وغرب الفرات وشبه جزيرة سيناء والجزء الشرقي من نهر النيل، وبعض الخرائط تضم الدلتا المصرية.
يا صاحبي، إن من أغلى الأماني لديّ، قبل أن يقبضني الله إليه، أنْ ألقى هؤلاء المقاومين الشرفاء فأقبّل أيديهم الطاهرة، التي أذلت وفضحت هشاشة جيش العدوّ الصهيوني الذي خدع العرب طوال خمس وسبعين سنة.
نظر إليّ صاحبي نظرة تحمل كلاما كثيرا، واكتفى بالقول: ألهذه الدرجة تحبّ رجال المقاومة الفلسطينية؟ قلتُ: نعم، وأكثر من ذلك. فهم تاج فوق رؤوسنا لا يراه إلا الشرفاء من هذه الأمة.
فلاش: عندما قرر صلاح الدين الأيوبي التوجه لتحرير بيت المقدس من الصليبيين، قام بسدّ الثغرة التي تسلل منها الصليبيون سابقا لاحتلال القدس، وهي ثغرة الخونة والعملاء، فقضى عليهم جميعا، وبعدها توجه الى القدس محررا بعد تطهير البؤر حوله من الخيانة. لذلك فالطريق إلى تحرير القدس وفلسطين في يومنا المعاصر، يتطلب نهج نفس التوجّه الذي سلكه صلاح الدين الأيوبي.