
بقلم : الصحافي أمين بوشعيب/إيطاليا

كتبت صحيفة الغارديان البريطانية تنتقد قادة الغرب المشاركين في مؤتمر شرم الشيخ بمصر لإنهاء الحرب وصنع السلام: ” المستقبل الآمن لسكان قطاع غزة لا يمكن أن يصنعه من تلطخت أيديهم بدمائهم” وقد كان على كاتب المقال أن يضيف أن القادة العرب والمسلمين، لا يمكن لهم كذلك صنع السلام، لأن أيدي القتَلة لم تعد وحدها الملطخة بدماء غزة… فصمتُ القادة العرب والمسلمين، وتواطؤهم، وفتحهم الأبواب للحصار بدل كسره، جعلهم شركاء في الجريمة.
إن هذا السلام المزيف أو ” الهدوء ” كما أسمّيه، والذي يسوّقه البعض باسم «السلام» هو في حقيقة الأمر خدعة سياسية تُخفي حجم الجريمة التي حدثت في غزة على مرأى ومسمع من العالم. فهل السلام يُبنى على جثث الأطفال؟ وهل الأمن يصنعه من شارك المجرم في القتل؟ كلا، فمن تلطّخت يده بدماء أهل غزة -سواء بالبطش المباشر أو بالصمت المتواطئ – لا يحقّ له أن يدّعي اليوم شرف بناء مستقبلٍ آمن لأهل فلسطين. لقد علمتنا التجارب التاريخية أن «السلام» الذي يُفرض على المغلوب أو يُستبدَل بمقايضات سياسية لا يحمل أصلاً من أصول العدالة؛ إنه مؤقت، مجرد طبقة طلاء على جريمة عميقة. هذا الكيان الذي بنى أمنه على احتلال الأراضي وبناء المستوطنات ونهب المقدّسات، لم يزرع في تربة ذلك الوطن أي جذور شرعية لنمو دائم. هدوء اليوم ليس أكثر من هدنة مؤقتة، وفور انتهاء آليات الضبط أو تصدّع تحالفات الدعم، يعود الصراع بحمولته التاريخية.
أما ذلك “السلام” الذي صُنع في أروقة البيت الأبيض برعاية دونالد ترمب، فلم يكن يومًا اتفاقًا عادلًا أو تاريخيًا كما رُوّج له، بل كان سلام على مقاس الطغاة، لا على مقاس الحق، وصفقة رخيصة صُممت من أجل مجد شخصي لرجلٍ معتوه أراد أن يخلّد اسمه في سجلّ “صانعي السلام” وهو في الحقيقة يوقّع على صكّ الظلم.
وأنا شخصيًا -وبكل وضوح -لستُ مطمئنا لهذا السلام الزائف الذي أراده ترمب ميدالية سياسية يعلّقها على صدره، متجاهلًا عمق الجرح الفلسطيني وحق الشعوب في الحرية والكرامة. إنه سلام بلا عدالة، وسلام بلا عدالة ليس إلا جريمة سياسية مؤجّلة، ستفجر ثورة عارمة تفضي إلى زوال دولة بني إسرائيل. ولن يُفاجئني، بل ولن يُفاجئ كل من يعرف طبيعة هذا الكيان الصهيوني، أن يُقدم على خرق أي اتفاق، بما في ذلك اتفاق اتفاق شرم الشيخ. الأخير، فالغدر ليس استثناء في سلوكه، بل هو جزء من تكوينه. لقد أخبرنا القرآن الكريم عن قومٍ عُرفوا بنقض العهود ونكث المواثيق، فلا عجب أن يتكرر المشهد اليوم كما تكرر بالأمس. هذا الكيان لا يعرف الوفاء، بل يُتقن فنون الخداع السياسي، ويستغل كل هدنة ليلتقط أنفاسه ويُعد لجولة جديدة من العدوان. إن الثقة في عدوٍ طبعه الغدر ليست حماقة سياسية فحسب، بل جهل بالتاريخ وسذاجة في قراءة الواقع.
إن النهاية الحتمية للظلم والاحتلال ليست مجرد تحليل سياسي أو توقع استراتيجي؛ بل هي وعد إلهي غير مكذوب. فقد تحدّث القرآن الكريم عن مصير الطغيان والفساد في الأرض، وعن سنن الله في هلاك الجبابرة. ومن يتأمل آياته، يدرك أن هذا الكيان مهما طال عمره، فإنه إلى زوال. واسمع إلى قوله تعالى في سورة الإسراء إذ يقول عز من قائل: ) وقضينا إلي بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكره عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا *إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وان أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مره وليتبروا ما علوا تتبيرا (
إن هذه الآيات ليست مجرد سرد تاريخي، بل خريطة طريق تكشف أن للفساد نهاية، للعلو سقوطًا. وإن كان الاحتلال الصهيوني اليوم في مرحلة “العلو الكبير”، فإن وعد الآخرة قادم لا محالة، يحمل معه النهاية الحتمية لهذا الكيان الدموي. والقرآن الكريم لم يترك الأمر للتفسير السياسي المحض، بل وضع معالم أخلاقية وتاريخية لسننِ سقوط الظلم والجبروت. فقوله تعالى وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا” جاء متبوعًا بآيات تفضح نهايات الطغيان وردود الله على من اعتدوا وظلموا. وهذه القراءة لا تُستخدم كتحريض، بل كإطار مفاهيمي لفهم أن العدل الإلهي والتاريخي لا يبقى للظالمين إلى الأبد.
وهنا لا بد من التذكير أن التاريخ يعج بأمثلة سقوط قوى كانت تبدو لا تُقهر – من الإمبراطوريات القديمة إلى الاستعمار الحديث – لأن البنيان القائم على الاضطهاد هش ولا يطول.
إن الكيان الصهيوني الذي يقف اليوم مكتفياً بذريعة القوة؛ نسي أن هشاشته عميقة ومزدوجة، فلا شرعية له لأنه أقام دولة على نفي شعبٍ آخر، كما أنه يعرف انقسامات داخلية حادة لم يسبق لها مثيل سواء على مستوى الطبقة الحاكمة أو على مستوى المجتمع، أضف إلى ذلك تراجع الدعم الدولي لهذا الكيان الصهيوني الذي كان يتغذّى على شبكة دعمٍ دولي سياسي وعسكري وإعلامي كثيف، لكن صور الدمار في غزة، والقتل الممنهج للمدنيين، وحصار الملايين في أضيق مساحة من الأرض، فجّرت موجة غضبٍ غير مسبوقة في عواصم الغرب. هذا التحول ليس تفصيلاً عابرًا؛ بل هو مؤشر على تآكل شرعية هذا الكيان مما يفتح الباب أمام عزلة سياسية متصاعدة، قد تجعله في لحظة ما وحيداً في مواجهة غضب الشعوب وحقائق التاريخ. وعندما تسقط شرعية الدعم، تسقط هيبة القوة، ويصبح السقوط مسألة وقت لا أكثر.
إن من يريد بناء مستقبل حقيقي لغزة، يجب أن يبدأ بالاعتراف بالظلْم، ومحاسبة الجناة، وإعادة الحقوق لأهلها. وإلى حينها، يبقى «السلام» الذي يروّج له أداة لإطالة عمر الظلم، وعمر الظلم محدود لا محالة.
فلاش: منذ أن تولى المجرم نتنياهو رئاسة الحكومة الصهيونية للمرة الأولى سنة 1996، وهو يبيع للإسرائيليين «أسطورة النصر الحاسم». وعدهم أن يمحو المقاومة من الوجود، لكنه يجد نفسه في كل مرة أمام جدار من المقاومة تزداد قوة وتنظيماً. وها نحن اليوم في 2025 والمقاومة لم تُهزم، ولم تتراجع قيد أنملة عن هدفها الأسمى بتحرير فلسطين “كل فلسطين” بل صارت شوكة في حلق النت ياهو، وكابوساً يقض مضاجعه ومضاجع كل من راهنوا على القضاء عليها من الصهاينة والمتصهينين.
يقول المحلل العسكري الصهيوني لهيئة البث الإسرائيلية يوسي هيوشع: “أعتقد اننا كنا نحارب مليوني مقاوم في غزة وليس اربعين ألف كما يقال. في قطاع غزة كل من يتحرك هو مقاوم وساهم فيما وصلنا إليه” (يقصد الفشل في تحقيق أهداف الحرب على غزة) وأضاف: ” أعتقد ان من يتحدث عن النصر الآن عليه ان يخجل من نفسه حتى لا أقول شيء آخر. غزة هذه أسطورة لابد ان يتعلم منها العالم مبادئ كثيرة انقرضت في عدة مجتمعات”
ما أبلغ أن يخرج الاعتراف من معسكر العدو، إذ يصبح بذلك برهاناً قاطعاً على قوة الموقف وعدالة القضية، ويُسقط كل محاولات التشويه والتضليل. إن العدو لا يمتدحك حبّاً، بل لأن الحقيقة أجبرته على الانحناء أمامها، شاء أم أبى!