بقلم : دكتور عادل بنحمزة
تأكد اليوم بالملموس أن المدرسة العمومية لا بواكي لها، فبعد قرابة ثلاثة أشهر من تعثر الموسم الدراسي الحالي، يبدو أن الأمر لا يمثل قلقا اجتماعيا جديا، ليس لأن الوضع ليس كارثيا، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ولكن لأن التركيبة الاجتماعية التي تطغى على المدرسة العمومية في الغالب اليوم وخاصة في المدن الكبرى والصغرى والمراكز شبه الحضرية، تتسم بكونها توجد على هامش الدورة الاقتصادية وغالبا ما تتكون من العاملين في القطاع غير المهيكل أو المهن البسيطة لكن السمة الغالبة هي الهشاشة والفقر، مع استثناءات لا تغير هذه الحقيقة، بينما تحضر النخبة وجزء واسع من الطبقة الوسطى في مدارس القطاع الخاص، لذلك فإن صدى ما تعرفه المدرسة العمومية اليوم يقتصر على أخبار معارك جزء من الطبقة الوسطى، بينما مخاطر ضياع سنة دراسية على ملايين التلاميذ والأسر، إنما يحضر كخبر ثانوي…
قبل فترة قادني واجبي كأب رفقة زوجتي لحضور اجتماع لآباء وأمهات وأولياء تلاميذ مدرسة خاصة حيث يدرس أبنائي، فأنا كغيري من عدد من المغاربة، فقدنا الأمل في المدرسة العمومية، أو على الأقل لم نستطع تربية الأمل وتربية أبنائنا معا، لذلك كنا مضطرين أن نقتطع مبالغ محترمة من أجورنا، لضمان مستوى تربوي وعلمي مقبول لأبنائنا، يمكنهم من مواجهة التحديات التي يفرضها المستقبل، على أن لا يعني ذلك الاستقالة من واجب الدفاع عن المدرسة العمومية.
كنا جميعا في الموعد إلا حالات نادرة منعتها ظروف عملها، كان اللقاء فرصة لأستمع لنقاش من القلب دون مساحيق ولا بلاغة لغوية، من مثل ما استمعت إليه خلال سنوات طويلة في ذات الموضوع، هناك كان الجميع يتحدثون بحرقة.. بصدق وبحزن أيضا، جلهم اعترفوا أنهم يحملون أطفالهم للقطاع الخاص؛ ليس حبا فيه ولا بحثا عن مكانة اجتماعية متوهمة، إنما يفعلون ذلك مضطرين، أحدهم تحدث عن أحد أصدقائه ممن لم يسعفه أجره الشهري في تسجيل أطفاله في مدرسة خاصة، قال أنه أسر له ذات صباح، أنه كلما رافق أطفاله إلى المدرسة العمومية التي توجد بالحي الذي يقطنه، شعر وكأنه يحملهم إلى “الخيرية”…
هكذا مع الأسف أضحى التعليم العمومي ببلادنا أشبه بجثة متعفنة، ذهبت روحها وتصر أن تحمل معها أرواح أجيال المستقبل، لا الأموال نفعت، ولا القرارات السياسية نجحت، ولا البيروقراطية فعلت ما عجز عنه الجميع، وعندما نعلم أن بدايات تقدم وتحضر الأمم مرت وتمر وجوبا من إصلاح التعليم، فإننا نخلص إلى أننا نمضي إلى مستقبل غامض ورمادي…
هكذا يتم دفع المدرسة المغربية نحو العزلة المطلقة عن العالم، والأمر هنا لا يهم تلاميذ التعليم العمومي، بل كذلك جزء غير يسير من تلاميذ القطاع الخاص، ببساطة لأن المناهج المتخلفة للقطاع العمومي تلاحق الجميع، باستثناء تلاميذ البعثات الأجنبية..
ففي زمن الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي والربوتات والثورة البيولوجية والنانوتكنولوجي، لازال أبناءنا يدرسون، كما درس أباءهم بل وأجدادهم أيضا، ساعات تدريس طويلة، مناهج يطغى عليها الحفظ والاستظهار، بالإضافة إلى الكم الذي يجعل وزن المحفظة أثقل من وزن التلميذ، والنتيجة أننا نبني أجيالا منفصلة تماما عن تطور التاريخ واتجاهات المعرفة المعاصرة، فقريبا سيعاد تعريف الأمية، فإذا كانت الأمية حسب الأمم المتحدة هي الجهل بالكتابة والقراءة بأي لغة، وإذا كان تعريف آخر يضم إلى التعريف
السابق جهل استعمال الحاسوب، فإن الأمية في السنوات القليلة القادمة، ستعني الجهل بلغة على الأقل من لغات البرمجة الإلكترونية.. هكذا بكل بساطة.!
نتيجة هذا الوضع الكارثي هي أننا نعد أطفالنا لمهن، ونحملهم على الحلم بها، في حين أنها ستكون قد انقرضت من سوق العمل، أو على أقل تقدير ستكون مهنا هامشية.. انتهى اجتماع المدرسة، وتأكدت قناعتي أننا نملك أسرا تقاوم لكي يكون أطفالها أحسن حالا، ومهما صرفت الدولة من أموال عمومية، فإن التعليم يظل خيبتنا الكبرى والإضرابات المتتالية، مهما كانت مبرراتها، تؤكد ذلك!