الأستاذ إدريس رحاوي
تشهد الساحة الثقافية لدى مغاربة بلجيكا حالة من الركود والضبابية، حيث تتعالى الأصوات متسائلة حول أسباب هذا الجفاف الثقافي الذي يعصف بجالية يزيد تعدادها عن مليون مغربي. ورغم وجود محاولات لإنشاء مراكز ثقافية تحتضن الإبداع وتربط الأجيال الجديدة بجذورها المغربية، إلا أن هذه الجهود غالباً ما تنتهي بالفشل، مما يترك أثراً سلبياً على المشهد الثقافي العام ويثير تساؤلات عن أسباب هذه الانتكاسات المتكررة.
في هذا السياق، يبرز مشروع “داركم” كمثال حي على المشاريع التي رصدت لها ميزانيات ضخمة، بهدف أن تكون جسراً ثقافياً بين الجالية المغربية في بلجيكا ووطنهم الأم. المشروع انطلق في إطار شراكة بين المغرب والجهات الفلامنية، وكان من المتوقع أن يلعب دوراً مهماً في تعزيز الثقافة المغربية وربط الأجيال الشابة بجذورها.
لكن المشروع سرعان ما تعثر، ليتم دفنه دون توضيح رسمي للأسباب. ومن ثم، جاءت محاولة أخرى لاستنساخ هذا المشروع تحت اسم “دارنا”، والذي بدوره يعاني اليوم من حالة احتضار. وما يثير الدهشة هو أن المغرب ما زال يسدد ميزانية لهذا المشروع رغم غياب أي نتائج ملموسة أو دور فعال له في الساحة الثقافية.
إن السبب الرئيسي وراء فشل هذه المشاريع يعود، وفقاً لمراقبين، إلى سوء التسيير والعشوائية في الإدارة. فالمشاريع بنيت على طموحات عاطفية دون إدراك حقيقي لحجم المسؤولية الثقافية الملقاة على عاتق القائمين عليها. كما أن هناك غياباً للتخطيط الاستراتيجي والإدارة الرشيدة، ما أدى إلى تفاقم الأزمة ودخول هذه المشاريع في ما يشبه “الموت السريري”.
هذه العشوائية لم تؤثر فقط على مشاريع “داركم” و”دارنا”، بل أيضاً على المثقفين والمبدعين المغاربة المقيمين في بلجيكا، الذين وجدوا أنفسهم منعزلين دون أي منصة تجمعهم أو تتيح لهم الفرصة للتعبير عن إبداعاتهم ومواصلة عطائهم الثقافي والفني
الأزمة لا تقتصر على المثقفين الحاليين فقط، بل تمتد إلى الأجيال الجديدة التي تعيش حالة من الانفصال عن هويتها الثقافية. فمع غياب مؤسسات ثقافية فعالة، يجد الشباب المغربي في بلجيكا نفسه أمام تحدي الحفاظ على هويته في ظل اندماجه في مجتمع مختلف. هذا الانفصال يؤدي تدريجياً إلى فقدان الأمل في العودة إلى الجذور الثقافية، مما يشكل خطراً على استمرارية الارتباط بين الجالية المغربية وبلدها الأم.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما هو الحل لإنقاذ هذه المشاريع وإعادة الحياة إلى الساحة الثقافية لمغاربة بلجيكا؟ الحل قد يكمن في إعادة النظر في إدارة هذه المشاريع وإشراك المثقفين المغاربة المقيمين في بلجيكا في صنع القرار وتسيير المؤسسات الثقافية، لضمان أن تكون هذه المشاريع قائمة على أسس متينة وتستجيب لحاجيات الجالية.
كما يمكن أن تكون هناك مقاربة جديدة تستند إلى التعاون بين القطاعين العام والخاص، وتوجيه التمويل إلى مبادرات محلية صغيرة تركز على الثقافة والفنون، مما يعيد للمغاربة في بلجيكا أملهم في رؤية مؤسسات ثقافية تعبر عن هويتهم وتحتضن إبداعاتهم.
يبقى الأمل معقوداً على أن تجد هذه المشاريع طريقها إلى النجاح، لأن الاستثمار في الثقافة هو استثمار في المستقبل، وهو ما يجب أن يتم إدراكه قبل فوات الأوان.