الأستاذ إدريس رحاوي
في قلب الرباط، المدينة التي تجمع بين عبق التاريخ وحيوية الحاضر، يقف الحلم بتحويلها إلى عاصمة للفنون كأفق يتجاوز مجرد الطموح ليصبح مشروعًا حضاريًا شاملاً. الرباط، تلك المدينة التي تتناغم فيها شواهد الماضي مع نبض الحداثة، تحمل بين أزقتها وأسوارها ملامح تؤهلها لأن تكون مركزًا عالميًا للإبداع الفني والثقافي.
الحديث عن الرباط كعاصمة للفنون ليس رفاهية فكرية، بل هو استحقاق ينبع من عمق ثقافي يمتد عبر قرون، ومن بنية ثقافية تتطور بوتيرة متسارعة. هذه المدينة، التي تحتضن متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر، وتستضيف مهرجان موازين الذي يجمع بين الشرق والغرب في تناغم موسيقي فريد، تمتلك جميع المقومات لتكون قبلة للفنانين والمبدعين من كل بقاع العالم.
لكن السؤال الحقيقي يكمن في كيفية ترجمة هذا الإمكان إلى واقع ملموس. الجواب ليس بسيطًا، فهو يتطلب رؤية متكاملة تبدأ من تعزيز البنية التحتية الثقافية لتشمل إنشاء فضاءات إبداعية تحتضن الفنانين المحليين والدوليين، وتوفير منصات دائمة لعرض أعمالهم. البعد الثقافي هنا يجب أن يتجاوز الجانب الترفيهي ليصبح مشروعًا تنمويًا يعيد صياغة العلاقة بين الفن والمجتمع.
الرباط لا تحتاج فقط إلى مهرجانات موسمية أو معارض عابرة، بل إلى استراتيجية تجعل من الفن جزءًا لا يتجزأ من هوية المدينة اليومية. إشراك السكان في هذا المشروع يمثل حجر الزاوية، فالمدينة التي لا يشارك أهلها في نبضها الفني تفقد روحها. تخيلوا الشوارع وهي تكتسي بأعمال فنية نابضة، والحدائق التي تتحول إلى مسارح مفتوحة، والمباني التي تحكي قصصًا مرسومة بريشة فنانين عالميين ومحليين.
العالم اليوم ينظر إلى الفنون كأداة قوة ناعمة، وسلاح دبلوماسي يجعل من الثقافة جسراً بين الشعوب. الرباط تمتلك كل ما يجعلها نقطة التقاء بين الشرق والغرب، لكنها تحتاج إلى خطاب عالمي يبرز هويتها الفريدة دون أن يغفل عن الطابع الإنساني الذي يجعل الفن لغة مشتركة.
الأمر لا يتعلق فقط بجمالية الحرف العربي الذي يمكن أن يصبح رمزًا عالميًا، أو بالموسيقى التي تمزج بين الأندلسي والصوفي في نسيج متناغم، بل أيضًا بتقديم نموذج جديد يجعل من الرباط مختبرًا للإبداع المعاصر. النجاح في هذا التحدي ليس فقط مسؤولية المؤسسات الرسمية، بل يتطلب تكاتف المجتمع المدني، والقطاع الخاص، وحتى المواطن العادي الذي يجب أن يصبح شريكًا في هذا التحول.
إن الحلم بجعل الرباط عاصمة للفنون ليس مستحيلاً، بل هو مشروع حضاري يحتاج إلى رؤية شجاعة تتحدى العقبات وتستثمر في الإنسان قبل المكان. الرباط لا تحتاج إلى إعادة اختراع نفسها، بل إلى تسليط الضوء على ما تمتلكه من جماليات أصيلة وقدرة على التجدد. وهذا هو جوهر الفنون: أن تعيد اكتشاف العالم بعين مختلفة، وأن تجعل من كل زاوية فرصة للتعبير عن الجمال الكامن في الحياة.