قرار إحالة النائبة البرلمانية ريم شباط على لجنة الأخلاقيات بمجلس النواب يثير العديد من التساؤلات حول مدى قانونية هذه الخطوة، والأهم من ذلك، حول توجهات السلطة التشريعية في التعامل مع الأصوات المعارضة أو المزعجة لبعض الجهات النافذة، وهو يجعلنا نطرح السؤال التالي؛ هل نحن أمام ممارسة ديمقراطية سليمة، أم أن الأمر يحمل في طياته رسائل ترهيب وتضييق على حرية التعبير داخل المؤسسة التشريعية نفسها؟ وهل يُعقل أن يُكمم هذا الصوت داخل المؤسسة التي يُفترض أن تكون منبرًا للنقاش الحر والتعبير الديمقراطي؟
ما حدث مع ريم شباط ليس مجرد إجراء داخلي عابر، بل يعكس منطقًا أصبح مألوفًا في المشهد السياسي المغربي من خلال محاصرة الأصوات غير المنسجمة مع التيار العام، حتى ولو كان ذلك على حساب المساطر القانونية والأعراف الديمقراطية. وبالتالي فاللجوء إلى لجنة الأخلاقيات في مثل هذه الحالات يطرح إشكالية جوهرية حول حدود صلاحيات رئيس مجلس النواب، ومدى مشروعية اتخاذ مثل هذا القرار دون الرجوع إلى مكتب المجلس، كما تقتضي القوانين المنظمة للعمل البرلماني، وهو ما يدفعنا لطرح سؤال جوهري فيما إذا كنا أمام تطبيق عادل للقانون، أم تصفية حسابات سياسية مغلفة بلبوس قانوني.
الأكيد أن السوابق البرلمانية تؤكد أن قضايا من هذا النوع تمر عبر المكتب، ويتم التداول فيها وفقًا للقواعد المتفق عليها، فلماذا لم يحدث ذلك هذه المرة؟ هل لأن المستهدفة نائبة جريئة تعمدت كسر التابوهات السياسية داخل قبة البرلمان؟
فحين تتحول المؤسسات المنتخبة إلى فضاءات تُعاقب فيها الأصوات المعارضة بدل أن تكون ساحات للنقاش والاختلاف، فذلك مؤشر خطير على تراجع حرية التعبير داخل المنظومة التشريعية. ريم شباط ليست أول نائبة تُواجه إجراءات مثيرة للجدل، لكن السؤال يكمن حول ما إذا كانت هناك معايير موحدة يتم تطبيقها على الجميع، أم أن بعض البرلمانيين يتمتعون بحصانة غير معلنة؟
هذا النهج في التعامل مع البرلمانيين الذين يعبرون عن مواقف قد تكون مزعجة للبعض، لا يختلف كثيرًا عما يواجهه الصحفيون المستقلون، وأبرز مثال على ذلك الصحفي حميد المهداوي، الذي أصبح عنوانًا لمعادلة غير متكافئة بين الصحافة الحرة وسلطة المتابعة القضائية. فبدل أن يكون القضاء ضمانة لحماية الصحافة، تحول إلى سيف مسلط على رقاب الصحفيين، وسط تصاعد واضح لمنطق “المتابعات” بدل “المحاكمات العادلة”. وهو ما يعكس توجهًا نحو تكميم الأفواه، سواء داخل البرلمان أو خارجه، تحت مسميات مختلفة ولكن بهدف واحد ألا وهو ضبط إيقاع المشهد السياسي والإعلامي وفق هوى السلطة.
ما يحدث داخل البرلمان اليوم لا يمكن فصله عن المناخ السياسي العام. فإذا كان ممثلو الأمة يُواجهون بهذه الطريقة داخل مؤسستهم التي يفترض أنها فضاء للرأي والرأي الآخر، بعد أن باتت أشبه بغرفة صدى تسمع فيها أصوات محددة، في حين يتم خنق الأصوات الأخرى بقرارات إدارية، فكيف سيكون الوضع بالنسبة للصحفيين والمثقفين والنشطاء؟
في العمق، القضية أكبر من ريم شباط أو حميد المهداوي، ولكن أمام مشهد يتشكل تدريجياً، حيث تتحول المؤسسات التي من المفترض أن تكون فضاءات للنقاش الحر والتعبير عن الرأي إلى ساحات لضبط الخطاب والمعاقبة السياسية، وهو تحول يحمل في طياته خطورة كبيرة، لأنه يقوض أسس التعددية ويفرغ المؤسسات من دورها الحقيقي، لتتحول إلى مجرد واجهة شكلية لديمقراطية لا تمارس حقًا، فهل أصبحنا أمام توجه جديد يجعل من القانون أداة للضبط السياسي بدل أن يكون ضمانة للحقوق والحريات؟
اليوم الرسالة التي تبعثها الحكومة إلى الفاعلين السياسيين والصحفيين وكل من يجرؤ على تجاوز الخطوط المرسومة سلفًا، هي أن سقف التعبير بات مقيدا، وأن أي خروج عنه سيقابل بإجراءات “مؤدبة” في ظاهرها، لكنها تحمل في جوهرها تهديدًا واضحًا، وهنا يبقى السؤال المطروح؛ إذا كان هذا التضييق قد وصل إلى داخل المؤسسة التشريعية نفسها، فأين يمكن أن تُمارَس حرية التعبير في هذا البلد؟
فحين يشعر المواطن أن ممثليه في البرلمان لا يتمتعون بحرية التعبير، بل يخضعون لعقوبات سياسية مقنعة، فإن ذلك يُضعف ثقة الشارع في المؤسسة التشريعية برمتها، وبالتالي كيف يُمكن للناس أن يؤمنوا بأن البرلمان هو فضاء حقيقي للديمقراطية، إذا كان يُمارس داخله التضييق نفسه الذي يُمارس خارجه؟
الأخطر من ذلك أن هذه الواقعة قد تُشكل سابقة تُفتح بها الأبواب أمام استهداف أي نائب يجرؤ على تبني خطاب خارج عن المألوف. فاليوم هي ريم شباط، وغدًا قد يكون أي نائب آخر، حتى يصبح البرلمان مجرد ديكور يُزين المشهد الديمقراطي، دون أن يكون له دور حقيقي في صناعة القرار أو الدفاع عن المواطنين.
واقعة ريم شباط ليست مجرد إجراء إداري، بل مؤشر خطير على المنحى الذي يسير فيه البرلمان، وعليه إذا لم يتم التصدي لهذا النوع من القرارات، فإن البرلمان سيفقد وظيفته الحقيقية، ويصبح مجرد غرفة تسجيل للقرارات الجاهزة بدل أن يكون فضاءً لصناعة القوانين والدفاع عن هموم الشعب.
كما أن ما يحدث اليوم لا يتعلق بأشخاص أو قضايا معزولة، بل باتجاه عام يعيد تشكيل العلاقة بين السلطة والمجتمع، بين الدولة والمواطن، وبين القانون والممارسة، وبالتالي فمثل هذه التطورات تستدعي يقظة مجتمعية واسعة، لأن المعركة الحقيقية ليست على مقعد في البرلمان أو قلم صحفي، بل على مستقبل الحريات بالمغرب.