
بقلم: الصحافي فؤاد السعدي

من الصعب أن نفهم كيف احتاجت حكومة يفترض أنها تتحمل مسؤولية قيادة بلد في ظرفية حساسة، خمسة أيام كاملة من الصمت أمام احتجاجات شبابية اجتاحت عددا من المدن، وحين قررت أخيرا أن تخرج إلى العلن، لم تقدم للرأي العام سوى بيان باهت، أعاد إنتاج نفس اللغة الخشبية التي سئمها المواطن. ففي الوقت الذي كان الشارع يغلي، وينتظر خطوات ملموسة تطمئن الأسر وتفتح أفقا أمام الشباب، اختارت الأغلبية أن تخاطب الناس بشعارات فضفاضة عن الحوار والإنصات، دون أن تقترب من لب الأزمة التي يعيشها المجتمع في الصحة والتعليم والقدرة الشرائية.
وما يزيد الطين بلة أن هذا السلوك لا يعكس مجرد بطء في التفاعل، بل يكشف عن خلل أعمق في الرؤية السياسية نفسها، وبالتالي، فالحكومة، بدل أن تواجه الواقع بشجاعة، ما زالت للأسف تتعامل مع المغاربة وكأنهم لا يرون بأعينهم ما يجري حولهم. ولأن الواقع أوضح من كل خطاب، فالمواطن الذي يدخل المستشفى ولا يجد دواء أو سريرا، لا يمكن أن يقتنع بتكرار الحديث عن “ورش إصلاحي ضخم”، وبالمثل، الأسرة التي تنهكها مصاريف التعليم الرديء، لا يمكن أن تطمئنها وعود غامضة بأن “الإصلاح في الطريق”. وهكذا يتحول التباعد المستمر بين القول والفعل إلى خطر مباشر على ما تبقى من الثقة بين الدولة والمجتمع.
ورغم أن خطاب العرش الأخير جاء شديد الوضوح في رسم الأولويات، بل وانتقد بشكل غير مباشر تعثر السياسات الحكومية، فإن الحكومة لم تحرك ساكنا. فالرغم من أن جلالة الملك دعا إلى نقلة نوعية في التنمية المجالية وتدارك الفوارق الاجتماعية، حتى لا يسير المغرب بسرعتين، ظل أداء الحكومة في الاتجاه المعاكس، وكأن الرسالة لم تصلها أو كأنها تتجاهلها عمدا، لتكون النتيجة أن الفجوة بين ما يريده الوطن وما يعيشه المواطنون ما زالت قائمة، بل تتسع يوما بعد آخر.
فبعد أربع سنوات من الشعارات والوعود غير المنجزة، أصبح واضحا أن هذه الأغلبية فقدت ما تبقى لها من رصيد الثقة، فلا إصلاح في قطاع الصحة، ولا تحول في مجال التعليم، ولا حماية حقيقية للقدرة الشرائية، بل حتى الجولة الإعلامية الأخيرة لوزير الصحة، بما حملته من استعراض فولكلوري، لم تفعل سوى صب الزيت على النار، أما رئيس الحكومة، فقد ظل أسير لغة التطمين التي لم تعد تقنع أحدا، وهو ما يفسر اتساع فجوة الغضب الشعبي يوما بعد يوم.
لقد خرج الشباب إلى الشارع وقالوا كلمتهم بصوت عال، ولا ينتظرون اليوم سوى جواب واضح من رئيس الحكومة نفسه، وأن أقل ما يمكن أن يقوله عزيز أخنوش للمغاربة اليوم هو أنه فهم الرسالة، وأنه قرر الرحيل، لأن البقاء في موقع المسؤولية دون القدرة على التغيير لا يعدو أن يكون استمرارا في الاستفزاز وإطالة لعمر الأزمة.
اليوم لم يعد مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة مجرد شعار دستوري نزين به الخطب، بل صار مطلبا وطنيا ملحا. فالحكومة التي أخفقت في الإصغاء للمجتمع في لحظة أزمة، وعجزت عن تقديم بدائل ملموسة، لم يعد لها ما يبرر بقاؤها، طالما أنها لم تستوعب بعد أن الاستقرار لا يقوم على البيانات المطمئنة، ولا على الجولات الدعائية، وإنما على الشجاعة في الاعتراف بالفشل، وعلى الجرأة في فتح مسار جديد يعيد الثقة ويعيد الأمل.
لقد وصلنا إلى لحظة الحقيقة، فإما أن يتحمل رئيس الحكومة مسؤوليته الكاملة ويغادر المشهد، أو أن تستمر البلاد في دوامة من الأزمات التي لا تزيدها البيانات الخاوية إلا تعقيدا. أما الوطن فيحتاج اليوم إلى قرارات شجاعة، لا إلى خطابات مراوغة، وإلى حلول عملية تعيد الاعتبار للثقة المهدورة بين الدولة والمجتمع.