

قبل أيام، نُشرت على الصفحة الرسمية لرئاسة الحكومة المغربية تدوينة توثق نشاطًا داخليًا لحزب التجمع الوطني للأحرار بجهة سوس ماسة. ظهر فيها رئيس الحكومة عزيز أخنوش يخاطب مناضلي حزبه، لا كرئيس للجهاز التنفيذي، بل كزعيم سياسي يتحدث من منصة عمومية يفترض أن تكون مخصصة للتواصل الحكومي مع المواطنين.
لم يكن مستغربًا أن تُحذف التدوينة بعد وقت قصير، لأن الحدث لم يكن حكوميًا، ولا علاقة له بالمصلحة العامة أو السياسات العمومية، بل مجرد لقاء حزبي داخلي. لكن الغريب، أو بالأحرى الصادم، أن يتم نشر هذا النشاط الحزبي الخالص على الصفحة الرسمية لرئاسة الحكومة، أي في الفضاء الرقمي الرسمي للدولة، المموّل من المال العام، والمخصص نظريًا لتبليغ المواطن بمخرجات العمل التنفيذي، لا بالبروباغندا الحزبية.
ما حدث لم يكن “سهوًا تقنيًا” ولا “زلّة تواصلية” كما يحاول البعض تبريره، بل تجلٍّ واضح لطريقة تفكير أخنوش وفريقه بأن الدولة ليست سوى امتداد لجهاز حزبي، والإدارة العمومية مجرد أداة ضمن أدوات الحملة الانتخابية الدائمة لحزب المليارديرات.
هذه الواقعة ليست الأولى من نوعها، لكنها الأوضح، لأنها تكثف في لحظة واحدة اختلالًا بنيويًا في كيفية فهم السلطة وممارستها. إن ما نراه اليوم هو انزلاق خطير نحو تذويب الحدود بين الدولة والحزب والثروة، بحيث تصبح المؤسسات العمومية مجرد واجهة لتمكين سياسي واقتصادي موجه.
ولا يمكن هنا الاستمرار في التلميح أو تخفيف العبارات. فبكل وضوح: عزيز أخنوش لا يتصرف كرئيس حكومة لجميع المغاربة، بل كزعيم حزب يملك المال، ويتحكم في الإعلام، ويحتكر مفاتيح القرار، ويسعى لتوسيع نفوذه على مفاصل الإدارة أيضًا. وبهذا الشكل من ممارسة السلطة، لم تعد الدولة جهازًا يعمل باسم الوطن والمواطنين، بل أصبحت واجهة لحملة سياسية دائمة، تبدأ من منشور فيسبوك، ولا تنتهي عند الصفقات الكبرى.
وقد لا تكون هذه أول مرة يتم فيها استغلال مؤسسات الدولة لأغراض حزبية، لكن المختلف اليوم أن هذه الممارسات لم تعد تُدار في الخفاء، ولا تُكلّف سياسيًا، ولا تقابل بأي رد فعل مؤسسي حقيقي. بل إننا نعيش وضعًا بات فيه الخلط بين السلط والمصالح بنية ثابتة، يعمل من خلالها كيان بثلاثة رؤوس: الحزب، والثروة، والحكومة.
ولعل المثال الأوضح على هذا التداخل الصارخ هو صفقة تحلية مياه البحر بالدار البيضاء. صفقة ضخمة، بلغت قدرتها الإنتاجية 300 مليون متر مكعب سنويًا، أُسندت إلى تحالف شركات من بينها “أفريقيا غاز”، المملوكة للهولدينغ العائلي لعزيز أخنوش. والمفارقة أن الجهة التي تشرف على الصفقة هي المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، الذي يرأس مجلسه الإداري أخنوش نفسه.
بل الأسوأ أن رئيس الحكومة لم يتردد في الدفاع عن الصفقة، بل هاجم منتقديها واعتبرهم “يضربون الدولة”، في خطاب يخلط بين شخصه، وشركته، ومنصبه، والوطن.
وإذا كانت هذه الواقعة قد مرّت بلا مساءلة، فالأمر لا يتوقف عندها. فقد جاءت بعدها فضيحة جديدة، أكثر مباشرة ورمزية تتجلى في شاحنة مساعدات غذائية تابعة لجماعة محلية، قامت بتفريغ حمولتها أمام منزل الوزير مصطفى بايتاس، القيادي في حزب الأحرار، باسم “مؤسسة جود”. المؤسسة التي تقول الرواية الرسمية إنها “غير حزبية”، رغم أن تمويلها وتوزيعها وسياق تحركاتها تقود كلّها إلى خزان سياسي واضح. فالوزير بايتاس، بدل أن يقدم توضيحًا شفافًا، اختار المناورة، وقال إن “المنزل لا يعود له”، بل لأحد أفراد العائلة، وكأننا أمام مشهد عبثي لا يليق إلا بدراما سياسية رخيصة.
هذه الممارسات، مهما تم تبريرها، تُنتج أزمة ثقة خطيرة. فحين يرى المواطن أن الحزب هو من يحكم، وأن الحكومة لا تفصل نفسها عن منطق الولاء، وأن الصفقات تسند لشركات يملكها من بيده القرار، وأن الإعلام صامت، ومؤسسات الرقابة لا تتحرك، فإن الرسالة التي تصل إليه واضحة: الدولة ليست لك. اللعبة مغلقة. والعدالة توزع حسب القرب من السلطة.
ثم يأتي عزيز أخنوش ليقول إنه “انسحب من تسيير شركاته”، وكأننا نتحدث عن شكليات إدارية. نعم، ربما انسحب من التسيير على الورق، لكن في السياسة لا تحكم النصوص فقط، بل تحكم الأخلاق وتوازن السلط والثقة الشعبية. كيف يمكن أن يقتنع مواطن بسيط بأن رئيس حكومة يملك إمبراطورية اقتصادية في المحروقات والغاز والفلاحة والتأمين والماء، لا يستفيد من موقعه ولو بشكل غير مباشر؟وكيف يُبنى نموذج تنموي فعال، في ظل خريطة مصالح يضعها من يملك القرار والمال معًا؟
الواقع أننا نعيش أزمة شرعية سياسية صامتة، أخطر من أي لحظة سابقة. أزمة في علاقة الحاكم بالمحكوم، وفي مفهوم الدولة نفسها: لمن تُدار؟ ولمن تشتغل؟
تدوينة فريق أخنوش لم تكن مجرد خطأ عابر، بل إشعار سياسي فاضح بأن منطق الدولة بدأ يُستبدل بمنطق الحزب، وأن من يملك الحزب، يملك كل شيء.