
بقلم: الصحافي فؤاد السعدي

منذ أن نص دستور 2011 على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ظل هذا المبدأ عنوانا لمرحلة جديدة من الإصلاح السياسي والإداري، يفترض أن تكرس فيها قيم الشفافية والنزاهة والمساءلة، لكن مرور أكثر من عقد على هذا التعهد الدستوري، يجعل السؤال اليوم أكثر إلحاحا وهو لماذا لا تزال المحاسبة استثناء بدل أن تكون قاعدة؟ ولماذا تحول “ربط المسؤولية بالمحاسبة” من شعار للإصلاح إلى بند مؤجل في الممارسة اليومية للدولة؟
الحقيقة أن الإشكال الحقيقي لا يكمن في النصوص القانونية، وفي أن المغرب يتوفر على ترسانة تشريعية متقدمة، وعلى مؤسسات رقابية قوية كمجلس الحسابات والمفتشيات العامة ولجان المراقبة البرلمانية، ولكن في ضعف الإرادة السياسية لتفعيل هذه الأدوات، وفي استمرار ثقافة “الإعفاء دون مساءلة” التي جعلت المواطن يفقد الثقة في جدوى الإصلاح.
فكم من مسؤول تم اعفائه من مهامه بسبب إخفاق أو فضيحة مالية، دون أن يتم فتح تحقيق حقيقي أو يتم عرضه على القضاء؟ وكم من ملف فساد ظل يراوح مكانه في المتاهات الإدارية والقضائية إلى أن طواه النسيان أو التقادم؟
الواقع أن المحاسبة ليست إجراء تقنيا لتدبير الأخطاء، بل هي جوهر الفعل السياسي وأساس الشرعية الديمقراطية، فعندما تغيب المساءلة، يصبح الفساد نمطا إداريا مقبولا، وتتحول الأخطاء إلى سلوك مألوف، وتضيع الحدود بين الكفاءة والتقصير. والأخطر من هذا وذلك أن غياب المحاسبة يفقد السياسة معناها، لأن المواطن حين لا يرى أي فرق بين من يخلص في العمل ومن يهمل، يفقد الحافز على المشاركة، وتصاب الثقة العامة بالشلل والفتور.
لقد أظهر الواقع المغربي في السنوات الأخيرة أن الفساد لم يعد مجرد تجاوز فردي أو سوء تسيير محلي، بل أصبح ظاهرة بنيوية ذات امتدادات سياسية واقتصادية واجتماعية، بمعنى حين تظل الصفقات العمومية موضع شبهة، وتغيب الشفافية في تدبير المال العام، وتتكرر الفضائح في قطاعات حيوية كالصحة والتعليم دون حسم قضائي، فإن الرسالة التي يتم نقلها للمجتمع هي أن المساءلة نسبية، وأن العدالة الانتقائية ممكنة، والنتيجة في الأخير، ازدياد الشعور العام باللاجدوى، حتى بات المواطن يردد، “ما فائدة الشكايات إذا كانت الملفات تنام في الرفوف؟”.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن بعض المبادرات الأخيرة حتى ولو كانت ذات حمولة سياسية مثل ما وقع في قطاع الصحة بأكادير، تشي بوجود إرادة محدودة لكنها حقيقية في استعادة هيبة القانون. فإحالة مسؤولين على القضاء بسبب اختلالات جسيمة، تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح، لأنها تثبت أن المحاسبة ممكنة متى توفرت الإرادة، غير أن هذه النماذج تظل معزولة، ولا يمكن أن تعفي الدولة من مسؤوليتها في تعميم ثقافة ربط المسؤولية بالمحاسبة على جميع المستويات، خاصة في تدبير الشأن المحلي والمناصب السياسية العليا.
لكن الملاحظة الجوهرية التي لا يمكن القفز عليها، هي أن المحاسبة في المغرب تبدو وكأنها تفعل بانتقائية. فحين تحال ملفات مسؤولين في قطاع الصحة أو الجماعات الترابية على القضاء، يصفق للصرامة، لكن الأسئلة تظل معلقة وهي لماذا لم تمتد المحاسبة إلى المستويات السياسية العليا؟ لماذا لم يحاسب رئيس الحكومة على شبهات تضارب المصالح التي طرحت علنا؟ ولماذا لم تفتح المساءلة في وجه وزير الفلاحة بشأن ملف ما بات يعرف بقضية “الفراقشية” التي أثارت جدلا واسعا لدى الرأي العام؟ ولماذا يتم التواري علي سؤال وزير الصحة السابق والحالي في ملفات اثارت الجدل؟
الأكيد أن العدالة حين يتم تجزيئها، تفقد معناها، وأن المحاسبة حين تطبق على الصغار وتستثنى منها الكبار، تتحول من قيمة دستورية إلى أداة انتقائية تضعف الثقة في الدولة بدل أن تعززها، على اعتبار أن المبدأ لا يقاس بعدد الملفات المحالة على القضاء، بل بقدرة النظام السياسي على تحقيق المساواة في المساءلة، بغض النظر عن المنصب أو الانتماء.
ولعل أخطر ما ينتج عن غياب المحاسبة هو إضعاف المؤسسات المنتخبة والوساطة السياسية. فحين لا يُحاسب المنتخبون على فشلهم، تتحول الأحزاب إلى مجرد وسائط انتخابية بلا مضمون، وتفقد قدرتها على تجديد نخبها، لأن الولاء في هذه الحالة يصبح معيارا أقوى من الكفاءة. وهكذا، تتكرس حلقة مفرغة عنوانها، مسؤولون بلا محاسبة، أحزاب بلا رقابة داخلية، ومواطنون بلا ثقة، والنتيجة منظومة سياسية تعيد إنتاج الأعطاب نفسها كل خمس سنوات.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال مسؤولية الإعلام والمجتمع المدني في ترسيخ الرقابة المواطِنة، لأن المحاسبة لا تمارس فقط داخل المؤسسات، بل أيضا في الفضاء العمومي عبر الرأي العام. فالصحافة الجادة هي شريك أساسي في كشف الفساد، والمجتمع المدني هو الضامن لعدم الإفلات من العقاب، غير أن هذا الدور يظل محدودا حين يغيب الوصول إلى المعلومة، أو حين تواجه الأصوات النقدية بالتحجيم والريبة، أو حين تشيطن الصحافة المستقلة والجادة، وتدعم التفاهة.
كما أن الفساد ليس ظاهرة قانونية فقط، بل هو في عمقه نتاج ثقافة مجتمعية ما تزال تتسامح مع الرشوة الصغرى والمحسوبية والزبونية، معتبرة إياها “تسهيلا” أو “تدبيرا للأمور”. لذلك، لا يمكن تحقيق المحاسبة الفعلية دون ثورة قيمية حقيقية تعيد الاعتبار للضمير المهني والمواطنة المسؤولة، وتجعل من النزاهة قيمة يومية لا شعارا موسميا.
إن غياب ربط المسؤولية بالمحاسبة لا يضعف فقط الثقة في الدولة، بل يهدد مسار التنمية نفسه، على اعتبار أن الاستثمار لا يزدهر في بيئة غامضة، والإدارة لا تتطور حين تغيب العدالة في التقييم، والمواطن لا يؤدي واجباته حين يشعر أن المسؤولين فوق القانون. إننا اليوم أمام معادلة دقيقة، أي من دون محاسبة لا يمكن بناء تنمية، ومن دون تنمية لا يمكن ترسيخ الثقة في الدولة.
لقد حان الوقت لتجاوز مرحلة الخطابات إلى مرحلة الفعل، لأن الدستور منح الأدوات، والمؤسسات متوفرة، وما ينقص هو الشجاعة السياسية لتطبيق القاعدة على الجميع، كبارا وصغارا، وبالتالي لا معنى لأي نموذج تنموي جديد إذا لم يبن على تدبير نزيه ومحاسبة حقيقية. ولا مستقبل لأي ديمقراطية إذا بقيت المساءلة رهينة المزاج السياسي أو الانتقائية في التنفيذ.
إن بناء مغرب العدالة والكرامة لا يحتاج إلى شعارات جديدة، بل إلى تفعيل حقيقي لمبدأ بسيط وواضح، بمع من يتحمل المسؤولية يجب أن يحاسب. تلك هي القاعدة التي تحمي الدولة من الفساد، وتحمي المواطن من الإحباط، وتمنح السياسة معناها النبيل.