بقلم الصحافي فؤاد السعدي
في مقاله الأخير بعنوان “التنصيب الذاتي أو صحافة الفلتر الصحافة ستظل جزءا من منفاخ حداد هائل يصنعها جيش منظم ومدرب”، يسعى يونس مجاهد في محاولة محتشمة كعادته إلى تسليط الضوء على إشكالات الصحافة الحديثة، مثل هيمنة الزعامات الوهمية والارتهان للأرقام والمتابعات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث ورغم أهمية هذه القضايا في نقاش واقع الصحافة، فإن مقاله يعكس، بشكل غير مباشر، تناقضًا واضحًا وهروبا إلى الأمام، إذ كيف لشخص كان في موقع المسؤولية عن تدبير هذا القطاع لسنوات أن يوجه انتقادات كهذه، دون الاعتراف بدوره في تكريس هذا الواقع المتأزم والبئيس؟ إن محاولة مجاهد هاته، تبدو أقرب إلى تنصل من المسؤولية، بدلًا من مواجهة الإخفاقات التي ساهمت في تردي المهنة واندحارها إلى ما هي عليه اليوم.
هذا التناقض يصبح أكثر وضوحًا عند ربطه بالدور الذي اضطلع به يونس مجاهد خلال فترة رئاسته للمجلس الوطني للصحافة، وهي مرحلة كان يفترض أن تشكل فرصة لتصحيح المسار ودعم حرية الصحافة، غير أن الواقع عكس ذلك تمامًا، حيث أصبح المجلس سابقا واللجنة المؤقتة حاليا رمزًا لنهج إداري لم يرتقِ إلى مستوى التحديات، وهو ما عمّق أزمات المهنة وأضعف مصداقيتها. وبالتالي، فإن انتقاداته الحالية، رغم ملامستها لقضايا حقيقية، تبدو جوفاء وغير مقنعة وبلا جدوى، طالما أنها لا تقترن باعتراف واضح بمسؤوليته عن الإخفاقات التي ساهمت في تشكيل هذا الواقع المتردي.
هذا القصور الإداري لم يكن وليد اللحظة، بل تجلى ولازال بشكل واضح خلال فترة رئاسته للمجلس الوطني للصحافة واللجنة المؤقتة حاليا، حيث أخفق في تحقيق الأهداف الكبرى التي أُنشئ المجلس من أجلها، مثل الدفاع عن حقوق الصحفيين والارتقاء بمستوى المهنية. وبدلاً من ذلك، هيمنت المشاكل الهيكلية وضعف السياسات التي لم ترقَ إلى مستوى التحولات العميقة التي يشهدها القطاع الإعلامي، هذا الجمود ساهم في ترك المجال مفتوحًا أمام الصحافة الفردية والشعبوية لتكتسح الساحة، في وقت كانت فيه الصحافة المهنية بحاجة ماسة إلى قيادة قوية قادرة على مواجهة التحديات وتأطيرها برؤية شاملة وواضحة.
كما أن انشغال يونس مجاهد بتأمين التعويضات السخية التي خُصصت لرئيس المجلس وأعضائه، واستفادته من ميزانية ضخمة دون تحقيق أي إنجازات ملموسة، يضع المجلس الوطني للصحافة في دائرة الاتهام. لأنه وبدلاً من ترجمة هذه الموارد إلى إصلاحات حقيقية تنهض بالمهنة، ظلت الصحافة تتخبط في أزماتها، وهو ما يستدعي اليوم تدخلاً عاجلاً من المجلس الأعلى للحسابات للتحقيق في أوجه صرف هذه الميزانيات، ومساءلة المسؤولين عن سوء تدبيرها.
وفي هذا السياق، تبدو الانتقادات التي يقدمها يونس مجاهد مجردة من العمق والمصداقية، خاصة عندما يتجاهل مسؤوليته المباشرة عن غياب السياسات الفعالة التي كان من شأنها دعم المهنة والنهوض بها، لأن محاولاته اليوم للدفاع عن الصحافة تبدو منفصلة تمامًا عن الواقع الذي ساهم في صناعته، مما يفقد خطابه أي موضوعية أو نزاهة، ويضعه في موقع أقل أهلية لتوجيه النقد، خاصة حين يكون هو أحد أبرز أسباب هذا التدهور.
وبالتالي، فالنقد الحقيقي يجب أن يكون صادقًا وملامسًا للواقع، قائمًا على أساس الاعتراف بالمسؤولية تجاه الأزمات التي تعانيها المهنة، وهذا ما يفتقده للأسف مقال يونس مجاهد، الذي تغلب عليه لغة التبرير والتنصل من الواقع بدلاً من الاقتراب بوعي وشفافية من حقيقة الأوضاع. مجاهد لا يريد أن يستوعب بعد بأن الصحافة تحتاج إلى قادة يعترفون بخطايا الماضي ويعملون بجدية لإصلاحها، وليس أولئك الذين كانوا جزءًا من صنع هذا الوضع المتردي. اليوم، لم يعد الصحفيون ولا الرأي العام في حاجة إلى دروس من مجاهد، بل ينتظر اللحظة التي يعلن فيها الرجل الرحيل، ليفسح المجال لأجيال جديدة قادرة على قيادة الصحافة بفعالية ونزاهة.