
بقلم: الصحافي فؤاد السعدي

تمر الصحافة المغربية اليوم بأزمة خانقة تهدد مصداقيتها وتقيد هامش الحريات الإعلامية، بسبب القانون المنظم للمجلس الوطني للصحافة، الذي صيغ بطريقة تخدم مصالح فئة معينة من الصحفيين والناشرين على حساب المهنة وأخلاقياتها. فالقانون، الذي كان من المفترض أن يكون خطوة نحو إصلاح القطاع وضمان استقلاليته، تحول إلى أداة للتحكم فيه وإخضاعه لمنظومة المصالح الضيقة، بفضل الجهات التي تكفلت بصياغته وفق أجندات تخدم نفوذها داخل المشهد الإعلامي الوطني.
فالقانون الذي صاغته النقابة الوطنية للصحافة المغربية والفيدرالية المغربية لناشري الصحف لم يكن نابعًا من إرادة إصلاحية حقيقية، بل كان مدفوعًا بحسابات سياسية ومصالح تجارية، وبدلاً من أن يشكل دعامة لتنظيم القطاع، تحول إلى وسيلة لتقسيم كعكة الدعم العمومي على أساس العلاقات الضيقة بين هذه الأطراف، مما كرس منطق الهيمنة على حساب استقلالية المهنة وحرية الصحافيين، وأدى إلى غياب بيئة صحفية مستقلة وعادلة في المغرب.
هذا القانون لم يكتفِ بتمكين النقابة والفيدرالية من صياغته وفق مصالحهما، بل جعلهما المتحكمين الفعليين في المجلس الوطني للصحافة، ما أفقده أي استقلالية. فالمجلس، الذي كان من المفترض أن يكون هيئة مستقلة لتنظيم المهنة وفق معايير موضوعية، تحول إلى مجرد امتداد لهذه الهيئات، يخدم مصالح أعضائها أكثر مما يخدم الصحافيين أو المهنة نفسها. ولعل ما يعزز هذا التوجه هو انسحاب الفيدرالية المغربية لناشري الصحف بعد نهاية الولاية الأولى للمجلس، بعدما اكتشفت أن النقابة الوطنية للصحافة المغربية أخلت بالاتفاق المسبق حول التناوب على رئاسة المجلس. هذا الأمر كشف أن الانتخابات لم تكن سوى خطوة شكلية تهدف إلى تمويه الرأي العام واستغباء الصحفيين، في حين كان من المفترض أن تنحصر السلطة الفعلية في يد الهيئتين بالتناوب. وبذلك، أصبح المجلس الوطني للصحافة مجرد أداة تُدار بمنطق الهيمنة والمصالح الفئوية، بدلًا من أن يكون مؤسسة تهدف إلى تنظيم القطاع وحماية استقلاليته.
هذا التوجه لم يقتصر على غياب الشفافية في آلية التسيير والتناوب على رئاسة المجلس فقط، بل امتد أيضًا إلى إشكالية أكبر تتعلق برؤية القانون تجاه الرقابة والمحاسبة. وفي الوقت الذي تعمل فيه القوانين المنظمة للصحافة في الدول المتقدمة على تحسين مستوى الشفافية، من خلال وضع آليات صارمة لمحاسبة وسائل الإعلام والمجلس المنظم لها، نجد أن القانون المتعلق بالمجلس الوطني للصحافة في المغرب أغفل العديد من القضايا الحساسة التي تؤثر بشكل مباشر على مصداقية المهنة واستقلاليتها. فبدلاً من وضع آليات فعالة للرقابة، لم يتطرق هذا القانون إلى موضوعات جوهرية مثل الإعلانات المدفوعة، ودور المال في التأثير على الخط التحريري للصحافة، أو كيفية تعامل المجلس مع الصحافة الإلكترونية التي أصبحت تشكل جزءًا أساسيًا في تأطير الرأي العام، وتؤثر بشكل كبير في تشكيل المشهد الإعلامي.
وبينما يُسجّل اليوم تدهور الصحافة المغربية، يجب أن تتحمل حكومة بنكيران المسؤولية التاريخية عن هذا الوضع. فوزير الاتصال آنذاك، مصطفى الخلفي، كان جزءًا أساسيًا في تكريس هذا الواقع المؤسف، وبالتالي ليس من حقه اليوم التباكي على حال الصحافة، بعد أن شارك بشكل مباشر في صياغة قانون أفرغ المهنة من استقلاليتها، وجعلها أداة للتوظيف السياسي. كما أنه أسهم في عرقلة حرية الإعلام من خلال قانون يخدم مصالح ضيقة، عبر توطئه مع الهيئتين للهيمنة على المجلس الوطني للصحافة، بهدف الاستحواذ على الدعم العمومي وتوزيعه لاحقًا وفقًا لرغباتهما.
هي مؤامرة جعلت القطاع يعاني من حالة من الفوضى والتراجع الكبير. فالصحافة، التي كانت في يوم من الأيام ركيزة أساسية للديمقراطية، تحولت إلى أداة للتضليل والإثارة الرخيصة، بعيدًا عن المهنية والبحث عن الحقيقة. ولعل ما يثبت قصور القانون المنظم للمجلس الوطني للصحافة هو عجزه عن معالجة إشكالية حرية الصحافة، بل إن هذا القانون ساهم في تعميق هذه الإشكالية. وبالتالي، حتى مسألة الحصول على بطاقة الصحافة المهنية، التي كان من المفترض أن تكون أمرًا يسيرًا يهدف إلى تعزيز الحريات الصحافية، أصبحت مرتبطة بعلاقات مع جهات معينة، مما يفتح المجال للتوظيف السياسي للصحافيين وتحويلهم إلى أدوات في معركة الرأي العام بعيدًا عن رسالتهم النبيلة في نقل الحقيقة وتعزيز الشفافية.
في نهاية المطاف، لم يحقق هذا القانون أيًا من الأهداف التي رُوِّج لها عند اعتماده. لقد كان نتاجًا للكولسة والتخطيط في الظلام بعيدًا عن أي إشراك حقيقي للمهنيين المعنيين، ولم ينجح في ضمان حرية الصحافة أو وضع أسس حقيقية لتنظيم المهنة. بل على العكس، حوَّل الصحافة إلى قطاع محكوم بتوازنات سياسية ومصالح شخصية ضيقة، وهو ما دفع بها إلى هذا المنحنى الخطير. اليوم، نجد أنفسنا أمام مشهد إعلامي متأزم، حيث تُهيمن المصالح الذاتية على حساب أخلاقيات المهنة، وتغيب أي جهود إصلاحية حقيقية لضمان أن تظل الصحافة سلطة رابعة مستقلة، بدلًا من أن تكون مجرد أداة في يد المتحكمين فيها.