
بقلم: الصحافي فؤاد السعدي

بعد مرور شهور على تعيين صلاح الدين عبقري كاتبا عاما بالنيابة لوزارة الثقافة، لم يعد هذا التعيين تفصيلا إداريا عابرا، بل أصبح رمزا لطريقة اشتغال الوزارة منذ أن تولى المهدي بنسعيد حقيبتها، وبالتالي ما كان يفترض أن يكون وضعا انتقاليا مؤقتا تحول إلى علامة على اختلال أعمق، حيث تغلب منطق الولاء والثقة الشخصية على الكفاءة والاستحقاق في واحدة من أكثر اللحظات دلالة على الأزمة البنيوية التي يعيشها القطاع الثقافي بالمغرب.
فالكاتب العام ليس منصبا شكليا، بل هو عصب القرار الإداري والمالي داخل الوزارة. لذلك، حين يتم اسناد هذا الموقع الحساس إلى شخص مقرب من الوزير دون المرور عبر مساطر تنافسية شفافة، يتحول التعيين إلى رسالة سياسية واضحة تؤكد أولوية التحكم على حساب الكفاءة، وهو نهج لم يأت من فراغ، بل ينسجم مع مسار متواصل من الممارسات التي جعلت الوزارة تدور حول شخص الوزير أكثر مما تتمحور حول مشروع وطني للثقافة.
فمنذ تولي بنسعيد حقيبة الثقافة، تراجع الأداء العام للوزارة بشكل مقلق من خلال توقف أو تباطؤ المشاريع الكبرى التي كانت تراهن على بناء سياسة ثقافية مستدامة، وغياب الرؤية الاستراتيجية التي تربط الثقافة بالتنمية والمواطنة، وتحول السياسات العمومية الثقافية إلى أنشطة موسمية بلا أثر مستدام، وأصبح المرفق الوزاري إدارة مناسباتية تدير الحدث أكثر مما تنتج المعنى في المقابل، تضخمت الواجهة الاتصالية للوزارة عبر المهرجانات واللقاءات والمبادرات ذات البعد الترويجي، بينما فقد القطاع صلته بالمبدعين والفاعلين الحقيقيين، والنتيجة حضور إعلامي كثيف، وإنجاز ثقافي باهت.
الأخطر من كل هذا أن ظاهرة تكريس أسلوب حكم إداري قائم على المحاباة والتعيين و”تفصيل المناصب على المقاس” باتت قاعدة لا استثناء. فبدل أن تكون الوزارة فضاء مفتوحا للكفاءات الوطنية، أصبحت مجالا مغلقا يتم فيها منح الفرص بحسب درجة القرب من مركز القرار، وبذلك، تحول الولاء إلى عملة صعبة، وصار التعيين في المناصب العليا مرهونا بالانتماء إلى دائرة الثقة. وحين يستبدل منطق الاستحقاق بمنطق الولاء، تتآكل المؤسسات من الداخل وتفرغ من مضمونها وتفقد روحها، ويضعف مردودية المرفق العام.
في ظل هذا الواقع، فقدت الوزارة البوصلة، وابتعدت أكثر فأكثر عن جوهر مهمتها المتمثلة في بناء سياسة ثقافية حديثة تواكب التحولات التي يعرفها المغرب وتترجم الرؤية الملكية التي تعتبر الثقافة إحدى ركائز القوة الناعمة للمملكة. ولعل ما لا يريد أن يستوعبه الوزير هو أن الثقافة ليست ديكورا سياسيا ولا وسيلة للدعاية، بل هي استثمار في الإنسان، وفي قدرته على التفكير والإبداع والانتماء، غير أن الممارسة الحالية للرجل تختزلها في واجهة للترويج، لا في ورشة لصناعة الوعي.
إن ما يجري اليوم بوزارة الثقافة يعكس أزمة قيادة بنيوية في تدبير الشأن العام أكثر مما يعكس أزمة موارد، لأن المسألة ليست في من يشغل المناصب، بل في كيف تدار السلطة داخل الإدارة العمومية. وبالتالي حين تقدم الولاءات على الكفاءات وتتحول الثقة الشخصية إلى معيار وحيد للتعيين، حتما ستصاب المؤسسات بالشلل، ويغيب الفعل العمومي القادر على الاستمرار بعد الأفراد.
لذلك، فإن استمرار عبقري في موقعه بالنيابة لا يمثل حدثا عابرا، بل مؤشرا واضحا على خلل بنيوي في طريقة اشتغال الوزارة. إنه تجسيد لنهجٍ اختار السيطرة بدل البناء، والولاء بدل الكفاءة، فصارت المؤسسة التي يفترض أن تحتضن الإبداع والتنوير تدار بالحسابات الضيقة والقرابات الإدارية. وما لم يستبدل هذا المنطق بآخر قائم على الشفافية والاستحقاق، ستظل وزارة الثقافة عنوانا للفشل المؤسساتي، ومرآة لوضع أوسع تختنق فيه الكفاءة وتتراجع فيه الثقافة إلى هامش الصورة.
إن الوزير، في نهاية المطاف، يبدو مصمما على طريق يقوم على التحكم لا على الإصلاح، وعلى الولاء لا على الكفاءة، والنتيجة وزارة بلا مشروع، وقطاع ثقافي فقد صوته في لحظة تاريخية كان المغرب أحوج ما يكون فيها إلى فكر حرّ ومعنى أصيل، وإلى مسؤول يدرك أن الثقافة ليست ميدانا للمجد الشخصي، بل مسؤولية وطنية لبناء المستقبل.
