الأستاذ إدريس رحاوي
في ظل التحولات الثقافية والاقتصادية التي يشهدها العالم اليوم، تبدو الحاجة إلى مشاريع تُعنى بتعزيز الهوية الثقافية المحلية ضرورة ملحة، لا سيما في الدول التي تمتاز بتنوعها وغناها الحضاري مثل المغرب.هذا البلد الذي يحتضن تاريخًا عريقًا يمتد لآلاف السنين، يمثل أرضًا خصبة للإنتاج الثقافي الذي يعكس تنوع تراثه وموروثه الحضاري للعالم. ومن هنا، تبرز فكرة مشروع “مدن الثقافة المغربية” كأحد الحلول الممكنة لتعزيز هذا الغنى الثقافي وتقديمه للعالم بطريقة تليق بعظمة هذا التراث.
المغرب، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، يزخر بموروث ثقافي متنوع. تتباين فيه العادات والتقاليد، وتتعدد فيه الفنون من موسيقى، وفنون تشكيلية، ومسرح، وسينما، وأدب…ومع ذلك، ما زالت هذه الثروات غير مستثمرة بالشكل الأمثل، حيث تتركز الفعاليات الثقافية الكبرى في المدن الكبرى مثل الرباط والدار البيضاء، بينما تبقى المدن الأخرى تعاني من التهميش الثقافي. وهنا يأتي دور مشروع مدن الثقافة المغربية كوسيلة لنقل مركزية الحراك الثقافي من المدن الكبرى إلى باقي المدن والقرى المغربية.
هذا المشروع لا يهدف فقط إلى تعزيز التراث المحلي لكل مدينة، بل يسعى إلى تفعيل الحراك الثقافي بها، وترويج منتجها الثقافي على المستوى الوطني والدولي. فكل مدينة في المغرب تحمل في طياتها قصصًا وتاريخًا يمكن تحويله إلى أعمال فنية تعكس هويتها وتفردها. يمكن لمشروع المدن الثقافية المغربية أن يكون فرصة لإبراز هذا التنوع الثقافي، وإتاحة الفرصة للفنانين والمبدعين المحليين للتعبير عن أنفسهم ونقل تجاربهم الفنية إلى مستوى آخر.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمشروع أن يكون وسيلة لتعزيز التفاعل بين المنتجين الثقافيين في المدن المختلفة. فتبادل الخبرات بين المبدعين والمثقفين في المدن الصغرى مع نظرائهم في المدن الكبرى من شأنه أن يسهم في تطوير الحقل الثقافي المغربي بشكل عام، وخلق توازن بين مختلف المناطق.
لكن تطوير الثقافة لا يتوقف عند الأنشطة والفعاليات فقط، بل يجب أن يشمل أيضًا البنية التحتية الثقافية. فالمدن المغربية بحاجة إلى مراكز ثقافية حديثة، وعروض فنية ومسرحية تستحق أن تُعرض في فضاءات ملائمة. البنية التحتية ليست مجرد بنايات، بل هي ركيزة أساسية لتمكين الشباب من الدخول إلى عالم الفن والإبداع. كذلك، يمكن أن يكون المشروع محفزًا لتطوير قدرات الشباب في مجالات متعددة مثل التصوير السينمائي، المؤثرات البصرية، والفن الرقمي، مما سيسهم في إبداع جيل جديد من المبدعين القادرين على نقل ثقافتهم إلى العالم.
من المهم أن يكون مشروع مدن الثقافة المغربية متجذرًا في فكرة الاستدامة. أي أن المدن المختارة لهذا اللقب يجب أن تستمر في تقديم فعاليات ثقافية حتى بعد انتهاء فترة الاختيار، مما يضمن استمرار الحراك الثقافي في كل مدينة. وعلى نفس المنوال، يجب تشجيع الاستثمارات في الثقافة والفنون من قبل القطاعين العام والخاص، لضمان وجود موارد دائمة لدعم هذا الحراك.
إن تعزيز الهوية الثقافية للمغرب ليس مجرد رفاهية أو ترف، بل هو ضرورة لتعزيز الانتماء الوطني وتقديم صورة مشرفة للمغرب أمام العالم. وفي ظل العولمة المتسارعة، فإن الحفاظ على الثقافة المحلية وتطويرها يعد أمرًا حيويًا للحفاظ على الهوية الوطنية.
السينما، الأدب، الموسيقى، الفنون التشكيلية، المسرح، كلها أدوات يمكن من خلالها نقل رسالة المغرب إلى العالم. ولكن لتحقيق هذا الهدف، يجب أن يكون لدينا الإرادة الحقيقية للاستثمار في هذه القطاعات، ودعم الفنانين والمبدعين، وإتاحة الفرصة للشباب للتعبير عن أنفسهم بشكل حر وخلاق.
المغرب يمتلك كافة المقومات ليكون منارة ثقافية في المنطقة، ولكن ذلك يتطلب رؤية واستراتيجية شاملة. “مشروع مدن الثقافة المغربية” يمكن أن يكون خطوة أولى نحو تحقيق هذا الهدف، من خلال تسليط الضوء على المدن المغربية التي طالما كانت حاضنة للفنون والثقافة، ولكنها لم تحظَ بالاهتمام الكافي. ومن خلال هذا المشروع، يمكننا أن نضمن أن تظل الثقافة المغربية نابضة بالحياة، وجزءًا أساسيًا من الهوية الوطنية.