دكتور عادل بنحمزة
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نيته الترشح لولاية جديدة، الرئيس الروسي توقع الغرب أن تكون الحرب على أوكرانيا بداية نهايته، لكن الرجل بدهائه استطاع أن يحول تلك الحرب وسيلة للتعبئة الداخلية وتعزيز سردية أن الغرب يستثمر في خراب روسيا ويريد استنزافها من خلال فرض حرب عليها في أوكرانيا لحماية أمنه القومي، وهي خاصية تسم تعاطي الغرب بصفة عامة عندما يتعلق الأمر بمصالح الآخرين ممن لا يشكلون حليفاً كاملاً. هذه السردية التي تملك حظاً كبيراً من الوجاهة تتعزز اليوم من خلال الحرب الهمجية التي تقودها إسرائيل على قطاع غزة، وهي حرب يستفيد منها الرئيس بوتين بطريقة غير متوقعة. فقد تراجع الاهتمام الإعلامي بما يحدث على الجبهة الأوكرانية، كما أن الدعم الغربي لكييف تراجع بالنظر إلى عدم القدرة على تغذية حربين كبيرتين في الوقت نفسه، وقد أظهر الغرب أن أمن إسرائيل يمثل أولوية بالمقارنة مع الوضع في أوكرانيا التي ليست سوى حرب استنزاف للروس ضحيتها الأولى هي الشعب الأوكراني. في هذا السياق الدولي يأتي إعلان بوتين ترشيحه للرئاسة، وفي السياق الداخلي فقد نجح بوتين في جر الاقتصاد الروسي من حدود الهاوية بل وتحقيق معدلات نمو لا يتم تحقيقها في الدول الغربية، واستطاع بآليات الردع النووي أن يمنع انتقال الحرب إلى الداخل الروسي، كما نجح بصفة خاصة في تحييد خطر “فاغنر” وتصفية زعيمها الذي كان على بعد كيلومترات من موسكو، في سابقة كان البعض يعتبرها نهاية مؤكدة لبوتين الذي أمضى سنوات في الدعاية لروسيا جديدة يقودها كقوة عالمية كبرى بصرامة شديدة، ويسير بها في إطار اختيار سياسي وأيديولوجي صاعد، يدعوه بعض الباحثين بـ”النظامية”.
“النظامية” تقوم كحل بديل لديموقراطية شاخت بما فيه الكفاية ولم تعد تغري بصورتها الليبرالية الغربية كثيراً من شعوب العالم، كما أن “النظامية” التي تعطي الأولوية للاستقرار وللتنمية الاقتصادية وللعدالة، وتعيد الاعتبار للقناعات والاختيارات الدينية وتعزز الهوية والشعور الوطني والقومي وتعمل على الحد من حرية التعبير، أصبحت نموذجاً يغري كثيراً من الأنظمة والقادة، بخاصة لمواجهة تصاعد التيارات الشعبوية والمتطرفة التي تستفيد من الانتخابات الحرة التي تجرى غالباً في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية تتسم بانتشار واسع للبطالة وعدم الاستقرار الوظيفي والقلق المستمر بخصوص المستقبل، وهو ما يجعل فئات واسعة من جموع الناخبين يائسة وضحية سهلة لخطابات سياسية شمولية وشعبوية، سواء كانت تصدر عن تيارات يمينية أو يسارية.
ويعتبر الرئيس بوتين الذي وصفته صحيفة “نيويورك تايمز” عند انتخابه رئيساً لروسيا للمرة الأولى بأنه “ديموقراطي الكي جي بي (نسبة لجهاز المخابرات السوفياتي السابق الذي كان بوتين واحداً من مسؤوليه)، نموذجاً لهذه “النظامية” التي ما زالت تبحث عن صهرها في قالب أيديولوجي يمكن تصديره، أو على الأقل الدفع به في مواجهة خصومها في الداخل والخارج.
ما يتم تكريسه في روسيا يتزامن مع بروز حديث عميق اليوم في الغرب عن أزمة حقيقية تعرفها الديموقراطية، ويبدو أن السنوات القادمة ستعرف تحولات جذرية في ما يخص مسألة السلطة وموقع الشعوب من شرعية المؤسسات التي تحدد مصيرهم ومشروعيتها، فاليقين المتزايد اليوم هو أن المواطنين يساهمون بصورة أقل في اختيار الماسكين بزمام السلطة، وذلك بصفة متزايدة على مر السنوات التي تلت بصورة خاصة، نهاية الحرب الباردة.. القناعات التي تترسخ اليوم لدى طيف كبير من المهتمين وأيضاً لدى جمهور واسع من الفئات المختلفة في عدد من المجتمعات الغربية الديموقراطية وغيرها من البلدان التي تنتهج طريق الديموقراطية، هي أن أصواتهم في الانتخابات لا تؤثر بصفة حاسمة في مخرجاتها، سواء تعلق الأمر بالسياسات العمومية المتبعة أم في عدالة ما يتحملونه من تكاليف لكي تستمر مؤسسات الدولة، ويبدو أن هناك قناعات متزايدة، بكون الدولة وجزء كبير من مؤسساتها واختياراتها، تعمل بمعزل عن مخرجات العمليات الانتخابية، بحيث تصبح الانتخابات فقط مظهراً خارجياً لديموقراطية افتراضية… لذلك ليس سراً أن اختصار الديموقراطية في الانتخابات الدورية، هو استعادة لما صنعته صناديق الاقتراع عندما قادت النازية إلى الحكم عقب الأزمة المالية والاقتصادية الكبيرة لسنة 1929، وقد يكون اليوم تصاعد النجاح الانتخابي لليمين المتطرف والتيارات الشعبوية في عدد من الدول الغربية وآخرها الأرجنتين، هو الثمن السياسي الذي تدفعه هذه الدول نتيجة الهزات الارتدادية للأزمة المالية والاقتصادية لسنة 2008، وهنا تجدر الإشارة إلى أهمية الأعمال التي قاربت “الربيع العربي” من زاوية الاقتصاد السياسي في علاقة بالأزمة المالية والاقتصادية العالمية نفسها.
الأزمة التي تعرفها الديموقراطية في صيغتها الليبرالية الغربية، ساهمت في ظهور ممارسات واختيارات في عدد من بلدان العالم، تمهد لظهور بديل من الديموقراطية الليبرالية، قد يبدو الأمر مبكراً للجزم بقابلية تحول ممارسات معزولة إلى تيار فكري وفلسفي قد يصبح اختياراً واعياً لدى العديد من الأنظمة السياسية، لكن تصاعد أزمة الديموقراطية في الغرب وانهيار أسسها الاجتماعية يساهم في تسريع بلورة هذا البديل الذي يُدعى اليوم بـ”النظامية” كاختيار يعطي الأولوية للاستقرار وللتنمية الاقتصادية وللعدالة، ولتعزيز حضور القناعات والاختيارات الدينية والشعور بالهوية الوطنية مع الحد من حرية التعبير، وبصفة خاصة حرية الإعلام، هذا التوجه تعتبر فيه روسيا بوتين، “رائدة” على المستوى العالمي كما تشكل تركيا أردوغان نموذجاً صاعداً لها، علماً أن هذه التجارب تقوم على صناديق الاقتراع بصفة خاصة، رغم ما يشوبها من عيوب.
فهل يساهم الاختلال الذي يعرفه النظام السياسي والاقتصادي العالمي في تعزيز السقوط المتتالي للدول نحو مزيد من السلطوية المغلفة بشكليات الانتخابات والمؤسسات؟
الديناميات وحالة الشك التي تخيم على العالم اليوم لا تمثل سوى اعتراف متأخر بما يعرفه العالم منذ نهاية القرن الماضي من تحولات عميقة على مختلف المستويات، همت بالأساس الجوانب الاقتصادية التي كانت لها انعكاسات عميقة على مفهومي الديموقراطية والدولة ودور هذه الأخيرة، ومن خلالها دور مؤسسات الوساطة التقليدية المتمثلة في الأحزاب السياسية والنقابات العمالية وغيرها، وما رافق هذه الوسائط من سرديات قدمت تصورها للدولة والمجتمع من زوايا مختلفة.
الأكيد أن جُل بلدان العالم تعيش هذه التحولات من دون امتلاك القدرة على التحكم فيها أو الحد من تبعاتها، فإذا كان الأمر على المستوى الاقتصادي يتم وفق عملية الاحتواء والدمج من قبل الرأسمال العالمي الذي بلغ درجة عُليا من التركيز في زمن تغول النيوليبرالية، فإن تبعات ذلك على المستوى الاجتماعي والسياسي تحتاج إلى بحث أعمق وإلى مساءلة نقدية، إذ يرى البعض أننا نعيش زمن الأفق ما بعد السياسي في ظل تراجع الفكرة الديموقراطية بتراجع أسسها الاقتصادية.
في أعقاب الأزمة المالية التي تحولت إلى أزمة اقتصادية سنة 2008، عرفت الولايات المتحدة، معقل الرأسمالية المتوحشة، حركة جماهيرية تدعى “لنحتل وول ستريت”، وقد حددت هدفاً لها هو مواجهة جشع الرأسماليين وسلطتهم في الدولة، في لحظة كانت الأزمة الاقتصادية في طريقها للخروج عن السيطرة مع انهيار مؤسسات الائتمان الكبرى.
المساءلة النقدية التي تجري اليوم للديموقراطية في الأوساط الأكاديمية والشعبية في عدد من بلدان العالم، يمكن اعتبارها نقطة نظام حول المسارات التي اتخذتها الرأسمالية المتوحشة التي بسطت قيمها ومنطقها، في ظل غياب أي بدائل فكرية قادرة على قيادة مواجهة أيديولوجية بما يحقق التوازن المفقود منذ انهيار جدار برلين وتفكك الكتلة الشيوعية، حيث لم يعد ممكناً التمييز بين المصارف والأنظمة، فكثير من الأنظمة أضحت مجرد ملحقات للمصارف، فهل نحن أمام مخاض يمثل مقدمة لمواجهة قادمة بين الشعوب والرأسمالية المتوحشة وإعادة بناء معنى جديد للديموقراطية؟ أم أن دول العالم في طريقها إلى إغلاق قوس الديموقراطية والسقوط الحر في شرك السلطوية أو النظامية؟ لا فرق.