بقلم: د. زكرياء بوسحاب
باحث في الشأن الديني
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين. وبعد،
في البداية أود أن أقدم لهذا الموضوع بموقفين عظيمين : الموقف الأول، لمولانا رسول صلي الله عليه وسلم وهو خارج من مكة بعدما أذن الله عز وجل له بالهجرة جعل يلتفت إلى مكة التي هي الموطن الأصلي له عليه الصلاة والسلام. نعم يلتفت إليها بشوق وعيناه تذرفان بالدموع يخاطبها بهذه الكلمات ” والله يامكة إنك لأحب البلاد إلى الله وأحب البلاد إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ماخرجت”
فياله من موقف عظيم يجدر بنا أن نتأسى به ونستمد منه المعاني الإيمانية والأبعاد الروحية التي تعزز ارتباطنا بوطنيتنا وهويتنا .
أما الموقف الثاني فهو للملك المجاهد الهمام الحسن الثاني طيب الله ثراه في خطابه الشهير سنة 1975 بمدينة أكادير الذي أعطى من خلاله الانطلاقة للمسيرة الخضراء المظفرة
حيث افتتح خطابه السامي بقوله
الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
شعبي العزيز:
قال تعالى في كتابه الحكيم:
(( فإذا عزمت فتوكل على الله)) صدق الله العظيم.
فعلا شعبي العزيز لقد عزمنا وعزمنا جميعا ككل مرة في التاريخ، قررنا أن نعزم عزمنا وقررنا أن نسير بمسيرة سلمية خضراء مدعمين بحقوقنا، محاطين بأشقائنا ورفاقنا، معتمدين قبل كل شيء على إرادتنا وإيماننا.
وما كدنا نعلن نبأ المسيرة، شعبي العزيز، حتى وجدنا فيك من الاستجابة ومن الطاعة ومن التسابق إلى الخير ما أنت مجبول عليه من تلك الخصال الحميدة الشريفة التي جعلت منك وستبقى تجعل منك تعطي دروسا وتلقن دروسا، منضدا في كتب التاريخ وسجلاتها كمثل يحتدى وكعشب يمكن أن يتخذ مثالا أمثل…
إلى أن يقول “غدا إن شاء الله سنخترق الحدود، غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة الخضراء، غدا إن شاء الله ستطؤون طرفا من أراضيكم وستلمسون رملا من رمالكم وستقبلون ثرى من وطنكم العزيز”..
هكذا خاطب الملك الحسن الثاني شعبه المغربي، إنها لكلمات عظيمة، كلمات قائد عبقري حكيم، تستحق أن نقرأها بإمعان لندرك ما احتوت عليه من أسرار روحية ونستلهم منها الحكم والعبر والعظات لندرك منزلة هذا الوطن العزيز ومنزلة الإمام الأعظم الحسن الثاني طيب الله ثراه فانطلاقا من هاذين الموقفين أقول : تعتبر المسيرة الخضراء من أبرز الأحداث الوطنية في تاريخ المغرب حيث تجلى فيها الإيمان الصادق والتضحيات الجسام للشعب المغربي إلى جانب أمير المؤمنين، كما جسدت قيمة الثقة بالله والتوكل عليه وغيرها من المعاني الإيمانية والأبعاد الروحية التي يمكننا الوقوف مع بعضها فيما يلي:
أولا : الصبر والتوكل على الله.
فالمسيرة الخضراء المظفرة أفضل تعبير عن الصبر الجميل والثقة بقضاء الله وقدره على تحقق ماكان من قبيل المستحيل مستمدين هذه الثقة العالية من القرآن الكريم الذي يحملون روحه في صدورهم ومصحفا في أيديهم متشبعين بقوله تعالى(إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) وقوله تعالى (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) وقوله جل وعز (ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) إلى غير ذلك من آي الذكر الحكيم.
فهذه المعاني وغيرها هي التي جعلت المغاربه يتوجهون صوب الصحراء المغربية بصدور عارية دون أسلحة غير آبهين بسطوة المستعمر وجبروته.. فهذا إن دل على شيء
فإنما يدل على منسوب الإيمان الذي كانوا يتمتعون به،
لأن شجاعة من هذا النوع لا تأتي إلا من الإيمان القوي بالله والعقيدة الصحيحة، نعم لقد تشبعوا بأن من توكل على الله كفاه، وتشبعوا بأن النصر مع الصبر كما هو في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك أبلوا بلاء حسنا في اختبار الصبر ،
أولا صبروا عن فراق أحبتهم، فقد ذهبوا من جميع أنحاء المغرب الحبيب من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، حيث تركوا ضيعاتهم وممتلكاتهم وأسرهم فداء ودفاعا عن هذا الوطن العزيز ثانيا :التضحية الوفاء،
لقد تجلت في المسيرة الخضراء روح التضحية والوفاء للوطن مقتفين في ذلك أثر الأنبياء والمرسلين، فلم يعرف الخوف سبيلا إلى قلوبهم العامرة بالقرآن والإيمان مرددين تلك الأشعار التي نحفظها جميعا: “نمشيو في كفوف السلامة
الله والنبي والقرآن معنا
الله وأنوار الحق سابقانا وبإيمانا نحطم كل طاغي جبار ..”
إلى غير ما هنالك من الأشعار والأهازيج التي كانوا يرددونها بين الفينة والأخرى. فبهذه التضحيات المصحوبة بلا شك بتوفيق الله وتأييده ومدده حققوا النصر العزيز والفتح المبين، ولسان حال كل واحد منهم يقول لكل مشكك في تحقيق هذا النصر ماقاله سيدنا موسى لقومه لما رأوا فرعون قد قرب منهم والبحر أمامهم فقالوا خائفين وجلين من بطشه وجبروته
“إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين” وكأنني بهولاء الشرفاء المغاربة الأحرار وهم متوجهون تلقاء الصحراء المغربية يرددون قول الله تعالى “إن معي ربي سيهدين”.
فما أكثر الأبعاد الروحية والإيمانية في هذا الحدث التاريخي الهام الذي نهدف من خلال إبراز بعض معالمه ودلالته أن نتواصى بالوفاء لهذا الوطن الحبيب، ومقتضى هذا الوفاء أن يحافظ كل واحد منا على أمنه واستقراره وصورته المشرقة في كل دول العالم، وأن نكون جميعا جنودا مجندين خلف مولانا أمير المؤمنين لخدمة الوطن وحمايته..
وختاما تبقى المسيرة الخضراء المظفرة حدثا تاريخياً هاما يمنحنا الدروس الحية في التصميم على النصر والإيمان والتقة بالله عزوجل.