الدكتور عبد الله بوصوف
تحل ذكرى اليوم العالمي للمهاجرين يوم 18 دجنبر في أجواء تخلو من الاحتفالية و في ظل إصرار منظمات أممية للهجرة و اللجوء على ضرورة الاهتمام أكثر بظاهرة الهجرة و المهاجرين باعتبارهم محركا اساسيا للتنمية و التقدم..
كما ان ذات المنظمات المتخصصة تعمل على نشر تقارير سنوية تعتمد على تحليل الأرقام و المعطيات…ومنها منظمة الهجرة الدولية التي أعلنت المديرة العامة Amy Pope عن تقريرها السنوي من عاصمة البانغلاديش ( داكا ) في شهر ماي من هذه السنة…و جاء في ذات التقرير ان عدد المهاجرين في العالم قد وصل الى 281 مليون مهاجر…و يضخون في أبناك بلدانهم أكثر من 831 مليار دولار و هي تحويلات فاقت حجم الاستثمارات الأجنبية في بعض البلدان…
لكن بعيدا عن لغة الأرقام و التحويلات…فإن صور مهاجرين عالقين في بواخر وسط الامواج أو
نساء في خيام على الحدود أو اطفال يبحثون عن قارورة ماء…أو جثتت غرقى على الشواطئ…لازالت صورا تعج بها العديد من المنصات و المواقع العالمية…بل انها شاهدة على مآسي إنسانية لمجموعات بشرية اضطرت للهجرة الجماعية أو النزوح الجماعي…هربا من تداعيات التغييرات المناخية أو من نيران الحروب….
فلازالت صور الهجرة الجماعية للشعب السوري و الطفل “إيلان ” عالقة في الاذهان بدءا من سنة 2015…بعد اندلاع الحرب الاهلية ، و نفس الشيء يقال عن الوضع في أفغانستان و السودان و غزة /فلسطين…
كما لازالت صور الهروب الجماعي للاوكرانيين بعد اندلاع الحرب مع روسيا سنة 2022 خالدة في الذاكرة الجماعية…و لاحظنا كيف امتصت الدول الأوروبية أكثر من 8,7 مليون لاجئ اوكراني بسلاسة و بدون كل تـلك الضجة الإعلامية و الحسابات السياسية و الأيديولوجية عندما يتعلق الأمر بمئات المهاجرين القادمين من افريقيا أو آسيا…!
لقد كانت الحروب و الصراعات و ماتزال دافعا قويا للهجرة القسرية و النزوح بحثا عن مكان آمن و مستقبل افضل…في اليمن و الشرق الأوسط و ليبيا و دول الساحل جنوب الصحراء و اوركرانيا وفنيزويلا وغيرها…و بسقوط النظام
السوري لبشار الأسد في دجنبر الحالي ، فقد دق العديد من المراقبين ناقوس الخطر حول احتمال تدفق موجات جديدة من الهجرة القسرية قد تُعد بالملايين في اتجاه الدول المجاورة أو الى أوروبا عبر البلقان…
و من أجل ذات الغد الأفضل فقد سُجلت بنسب متفاوتة العديد من حالات الوفاة و الغرق وسط شباب مرشح للهجرة سواء في البحر المتوسط أو بشواطئ بحر المانش و البلقان…
هذا في الوقت الذي لازالت ملفات الهجرة و المهاجرين و اللجوء من أهم نقط الحملات الانتخابية لاحزاب اليمين و اليمين المتطرف..كما أن Pact on Migration أو السياسة الأوروبية في الهجرة و التي كانت محور الاتفاق بين المجلس الأوروبي و البرلمان الأوروبي في 20 دجنبر 2023 ، الذي تم تعديله في 10 أبريل من سنة 2024 على ان تتم المصادقة عليها أمام المجلس الأوروبي في تاريخ لاحق…و هي السياسة التى مالت نحو المزيد من التضييق و توسيع اختصاصات مؤسسة Frontex و الرفع من ميزانيتها..و فتح مكاتب احتجاز المهاجرين الغير النظاميين خارج دول الاتحاد الأوروبي كألبانيا و رواندا…وسط سجال قانوني و حقوقي و إعلامي حول شرعية ذلك الاحتجاز وصل الى حد تدخل القضاء سواء في إيطاليا أو بريطانيا بعدم قانونية أماكن الاحتجاز و برفض قرارات الترحيل و الطرد…!
لكل هذا و ذاك..فإن اليوم العالمي للمهاجرين في 18 دجنبر من كل سنة ، أصبح من جهة، مناسبة لانتقاد سياسات الهجرة و اللجوء بدول شمال المعمور و المطالبة بتحسين أوضاع المهاجرين و اللاجئين و النازحين…و من جهة ثانية مناسبة لعرض أهمية الهجرات سواء على مستوى تعزيز الاقتصاد و اليد العاملة في بلدان الاستقبال التي تعاني من ارتفاع نسبة الشيخوخة و انخفاض نسبة الولادات…أو على مستوى المساهمة في التنمية و التضامن الاجتماعي في بلدان الأصل…
لكن الأهم هو العدد الهائل من الاصدارات الفكرية و التقارير الاعلامية السنوية التي تناولت الهجرة ليست بلغة أرقام التحويلات المالية..بل بدراستها كظاهرة إنسانية و اجتماعيــة و تأثرها بالتغيرات المناخية و بأكثر من 52 حربا في العالم…فالهجرة لا تعني فقط انتقال أشخاص الى أماكن أخرى..بل هي انتقال بصيغة الجمع…لحمولات ثقافية و دينيــة و لغوية و تجارب إنسانية فردية أو جماعية و آلام و آمال…
لقد ساهمت الكثير من الأعمال الفنية في ترسيخ ثقافة التعدد الثقافي والديني…كفيلم “فيكتوريا و أبدول ” ، و عرت أخرى عن الاختلالات و الفوارق الاجتماعية و الضواحي كفيلم “أثينا ” ، و لامست أخرى مواضيع حساسة كفيلم “أبدا بدون ابنتي “…
ويبدو أن فيلم ” يوم بدون مكسيكيين ” قد عكس الحقيقة وأن العالم لن يستمر بدون هجرة و بدون مهاجرين…
أعتقد أن الثورة الرقمية و المواقع الالكترونية و شبكات التواصل الإجتماعي…تنقل العديد من أوجُه الحقيقة حول ملف الهجرة على المستوى العالمي…ويعني ذلك أن طريقة “السرد ” لم تعد حكرا على الفاعل السياسي و بعض الإعلام الغربي الذي لازال يقتات من كلاسكيات الهجرة كالإسلام و الحجاب و يروج لخطورة “التحول الكبير “…مقابل نماذج ناجحة في مجتمعات متعددة الثقافات و الديانات…
و نحن على بعد أيام قليلة من اليوم العالمي للمهاجرين 18 دجنبر…نتمنى تضافر جهود كل الفاعلين من أجل ضمان هجرة آمنة و نظامية و منظمة بعيدا عن المقاربة الأمنية…وتبَنِي مقاربة تهدف إلى تحقيق توازن سليم بين الواقعية والطوعية وبين المصالح المشروعة للدول واحترام الحقوق الإنسانية للمهاجرين..
كما جاءت في الرسالة الملكية بمناسبة المؤتمر الحكومي الدولي حول الهجرة بمراكش في دجنبر 2018…