
بقلم: الدكتور محمد الفرحاوي/ بلجيكا

في خضم النقاشات المستمرة حول وضع المسلمين في أوروبا، خرج أحد أعضاء المجلس الإسلامي السابق بدعوة لتطوير الفتاوى الإسلامية، وركز بشكل خاص على مسألة دفن الموتى، مبررًا ذلك بـأن “المقابر أصبحت ممتلئة ولم تعد قادرة على استيعاب المزيد من الموتى”.
هذه الدعوة، رغم ما قد يبدو من ظاهرها أنها واقعية ومرتبطة بسياق أوروبي خاص، تطرح إشكاليات كبرى، ليس فقط على المستوى الفقهي، بل أيضًا على المستوى الهوياتي والديني للمسلمين في الغرب.
ومن المهم التنبيه هنا إلى أن هذه القضية تُطرح اليوم تحديدًا في بلجيكا، وخاصة في العاصمة بروكسل، حيث تواجه المقابر الإسلامية بعض التحديات من حيث الطاقة الاستيعابية، وهو ما جعل بعض الأصوات تقترح حلولًا “فقهية” تمس جوهر أحكام الشريعة، بدلًا من البحث عن حلول عملية تحترم خصوصية المسلمين وحقوقهم الدينية.
أولًا: الفتاوى ليست مجالًا للتنازل عن الثوابت
من المهم أن نُذكر بأن أحكام الدفن في الإسلام تدخل ضمن ما اتفقت عليه الأمة منذ قرون، وهي مرتبطة بكرامة الإنسان الميت، حيث يأمر الإسلام بدفن المسلم في التراب، في قبر مستقل، موجه نحو القبلة، ويُستر جسده ولا يُحرق.
هذا ليس تفصيلًا هامشيًا، بل جزء من العقيدة والإرث الشرعي الذي يحفظ كرامة الإنسان حيًا وميتًا.
فإذا كنا نقبل “تطوير” الفتوى في هذا المجال حتى نصل إلى القبول مثلاً بـ”الحرق” أو “الدفن الجماعي” أو حتى “إذابة الجثث”، فهل سنقف عند هذا الحد؟
ما الذي سيمنعنا حينها من مراجعة سائر الثوابت بحجة “الواقعية الأوروبية” أو “ضيق الإمكانيات”؟
ثانيًا: المشكلة مادية وليست فقهية
الزعم بأن “المقابر لا تستطيع الاستيعاب” ليس دقيقًا من الناحية الواقعية. نعم، هناك ضغط متزايد على بعض المقابر الإسلامية في بعض المدن الكبرى مثل بروكسل، ولكن هذا لا يعني أن الحل هو تغيير أحكام الشريعة. بل المطلوب هو:
السعي لافتتاح مقابر جديدة للمسلمين،
الضغط على السلطات البلدية من أجل توسيع المقابر القائمة،
أو حتى استثمار الجاليات في شراء أراضٍ خاصة تُخصّص لدفن موتاهم وفقًا لأحكام دينهم.
هذه حلول عملية وممكنة، وتدل على احترام الجالية لهويتها، بدلًا من القبول بالذوبان التدريجي باسم “التحديث”.
ثالثًا: فتاوى “الحرق” تجاوز خطير لا يمكن قبوله
والأخطر في هذا السياق أن هذا العضو السابق في المجلس الإسلامي لا يكتفي بطرحه الفردي، بل يحاول اليوم التأثير على الأعضاء الجدد في المجلس – رغم أنني شخصيًا لا أعترف بشرعية هذا التشكيل الحالي – ويدفعهم نحو الضغط على المجلس العلمي المحلي من أجل استصدار فتوى تبيح حرق جثث المسلمين كحل لما يسميه “أزمة المقابر”.
وهنا يجب أن نُدق ناقوس الخطر:
فمثل هذه الدعوات لا تنتمي إلى باب “الاجتهاد الفقهي” المشروع، بل إلى باب الانحراف عن الأصول والثوابت الشرعية. حرق جثة المسلم محرم قطعًا في الإسلام، وهو إهانة لجسده وكرامته، مهما كانت الظروف. ولا توجد ضرورة يمكن أن تبيح ذلك شرعًا، بل إن مجرد التفكير في “تشريع” هذه الممارسة يعكس حالة من الانفصال التام عن روح الشريعة ومقاصدها.
رابعًا: الخطاب المهادن يضعف موقف المسلمين تجاه السلطات
عندما يأتي هذا الكلام من عضو سابق في مؤسسة تمثيلية للمسلمين، فإن الخطر يكمن في أنه يُقدم تنازلًا مجانيًا للسلطات الأوروبية، التي بدورها قد تستغل هذه “الفتاوى المتساهلة” لتبرير إهمالها لحاجات المسلمين.
بدل أن نطالبهم باحترام حقوقنا في الدفن، كما تُحترم حقوق سائر الطوائف الدينية، نُقدم لهم تبريرًا لرفض توسعة المقابر أو تخصيص مساحات للمسلمين.
خامسًا: الفقه الإسلامي فيه من المرونة ما يكفي دون المساس بالثوابت
الفقه الإسلامي، ومنذ قرون، لم يكن جامدًا، بل عرف قاعدة عظيمة هي “الضرورات تبيح المحظورات”، ولكنه كذلك وضع قيودًا صارمة على ما يُعدّ ضرورة، وحدودًا لا يُمكن تجاوزها.
فحتى في حالات الحروب والأوبئة، لم يُسجل في التراث الفقهي الإسلامي قبولًا بإهانة جثة المسلم أو إحراقها، بل كان العلماء دائمًا يؤكدون على ضرورة دفن المسلم بما تيسر، ولو بدون كفن، ولكن دائمًا في قبر مستقل، وفي الأرض، لا غير.
خاتمة: واجبنا هو الصمود والتخطيط، لا التنازل
ختامًا، الفتاوى لا تُغير الثوابت ولا تتبع ضغط الواقع دون ضوابط. على العكس، الفتوى هي جسر بين النص والواقع، ولكنها لا تفرّط في النص.
والتحديات التي نعيشها في أوروبا يجب أن تُواجه بالتنظيم، وبالمطالبة بحقوقنا كاملة، لا بالتماهي مع واقع يُراد لنا أن نتأقلم معه ولو على حساب ديننا وهويتنا.