الأستاذ إدريس رحاوي
تشهد الساحة الثقافية في المغرب منذ عقود تجاذبات لغوية قوية، تتداخل فيها الفرنكوفونية مع اللغات الوطنية كالعربية والأمازيغية …، وتطرح تحديات متزايدة حول الهوية والانتماء الحضاري. هذا الوضع يثير تساؤلات مهمة حول قدرتنا الفعلية على حماية “تمغربيت” وإرساء صناعة ثقافية وإبداعية أصيلة تعكس تراثنا وتفردنا الحضاري.
الفرنكوفونية، التي تعمقت جذورها في المغرب منذ الحقبة الاستعمارية، لم تكن مجرد لغة تواصل، بل أصبحت جزءًا من الهيكلة الإدارية والتعليمية والاقتصادية للبلاد. هذا الوضع أسفر عن سيطرة واضحة للغة الفرنسية على المشهد الثقافي المغربي، لدرجة أن العديد من القطاعات، بما في ذلك الثقافة والإبداع، باتت تديرها النخب الفرنكوفونية التي ترى في الفرنسية وسيلة لتحقيق التقدم والانخراط في العولمة.
لكن في ظل هذه الهيمنة، يطرح السؤال الجوهري: هل نحن فعلاً قادرون على حماية “تمغربيت”؟ هل بإمكاننا أن نحافظ على خصوصيتنا اللغوية والثقافية في ظل هذه العاصفة الفرنكوفونية؟ الجواب يتطلب التوقف عند جملة من المعطيات.
“تمغربيت” ليست مجرد شعار، بل هي مفهوم عميق يعبر عن الهوية المغربية بكل مكوناتها الثقافية واللغوية. إنها الرابط الذي يجمع بين العربي والأمازيغي والحساني في بوتقة واحدة، ويعبر عن التعدد والتنوع الذي يميز المملكة المغربية. إذا كنا نرغب في حماية هذا المفهوم، فإننا بحاجة إلى ترسيخ اللغات الوطنية في جميع مجالات الحياة، بما في ذلك الصناعة الثقافية والإبداعية.
ولكن، هل نحن قادرون فعلاً على صناعة ثقافية وإبداعية مغربية محضة تنبع من تراثنا وأصالتنا؟ هنا تبرز تحديات عديدة. فالصناعات الثقافية في المغرب لا تزال تعاني من ضعف في البنية التحتية والدعم القانوني. لا نمتلك حتى الآن نموذجًا واضحًا لـ”المقاولة الثقافية” التي يمكن أن تكون لبنة لصناعة إبداعية متكاملة. بالإضافة إلى ذلك، لا توجد تشريعات واضحة تؤطر هذه الصناعات وتجعلها موردًا اقتصاديًا قادرًا على المنافسة في الأسواق العالمية.
على الرغم من هذه التحديات، يبقى الأمل قائماً. المغرب غني بتراثه الثقافي المتنوع، وهذا التنوع يجب أن يشكل مصدر قوة لإرساء صناعة ثقافية مغربية متميزة. لا بد من التركيز على توظيف هذا التراث في الإنتاجات الإبداعية، سواء في الأدب، الموسيقى، السينما أو الفنون التشكيلية. كما يجب أن نعمل على إحياء قيم “تمغربيت” في الأجيال الصاعدة، لجعلها قادرة على المشاركة الفعالة في المشهد الثقافي العالمي دون التخلي عن هويتها.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال أن العولمة تفرض علينا التفاعل مع لغات وثقافات أخرى، ولكن هذا لا يعني أن ننصهر في تلك الثقافات على حساب هويتنا. الفرنكوفونية قد تكون نافذة للتواصل والانفتاح على العالم الفرنكوفوني الضيق جغرافيا ، ولكن يجب أن تظل لغاتنا الوطنية هي الأساس. إذا تمكنا من إيجاد هذا التوازن بين الانفتاح والحفاظ على الهوية، سنكون قادرين على بناء صناعة ثقافية مغربية تستمد قوتها من تراثنا وتفردنا الحضاري.
التجاذبات اللغوية في المغرب ليست مجرد صراع بين لغات، بل هي معركة حول الهوية والانتماء. “تمغربيت” هي المفتاح لحماية تلك الهوية، وإذا كنا نطمح لصناعة ثقافية مغربية حقيقية، فعلينا أن نبدأ من لغاتنا وتراثنا، ونعمل على جعل هذه الثقافة جزءًا من الحلول الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن تدفع بالمغرب نحو مستقبل زاهر.