الكاتب محمد لحسن الحراق/ بلجيكا
في البداية أحب أن أخبركم أني أتناول هذه الرواية بصفتي قارئا ، والقاريء
2 هنا بمفهوم “ستانلي فيتش”
الذي يعتبر أن “القاريء هو صانع النصوص”، لكن
ليس ذلك القاريء المتحرر من كل إطار معرفي ومنهجي وإنما القاريء المنضوي
ضمن جماعة تأويلية . ألن التأويل هو البحث عن المعنى، عن الحقيقة التي تغلفها
الرواية بعدة ألبسة مزخرفة جميلة من اللغة واألساليب والتقنيات السردية.
إذن على القارئ أن يخلع تلك الحجب ليشاهد نصا داخل النص، ومعنى داخل
المعنى. وإن كانت اللغة هي اللغة والرواية هي ذات الرواية والشخوص هم ذات
الشخوص. النص العبقري والجيد هو القابل لعدة قراءات وإن اختلفت كثيرا
وتباعدت الرؤى. بل هذا االختالف يزيده غنى وثراء. ألن النص عبارة عن ثوب
3 ولباس حسب تعبير “روالن بارت”
نص يبني نفسه ويخدمها من خالل تشابك ال
يتوقف كما تفعل العنكبوت التي تذيب نفسها في اإلفرازات في بناء شبكتها. هذا
التشبيك ال يحول دون استكشاف كنه النص الباطن المكنون داخله ، وال يحول دون
الوصول إلى استكشاف الشفرة السرية كما يقول رومان جاكبسون. صاحب
4 المدرسة التواصلية أو الوسائطية حسب تعبير الدكتور حيدر غضبان
.
بهذه األدوات المنهجية يمكن قراءة هذا النص، فهو في الظاهر دراما اجتماعية
عادية نعرفها جميعا. بل قد تكون مشتركة في عدة مجتمعات أخرى. لكن بفضل
هذه األدوات أدت إلى الكشف والتعرية لهذه األلبسة والثياب للوصول إلى معاني
مدهشة حد الصدمة. لذا سميت هذه القراءة تأويل الدهشة ودهشة التأويل في رواية
رجل المرايا المهشمة للبنى ياسين.
التأويل هنا ليس في االقتصار فقط على جماعة لسانية أو أسلوبية ولغوية معينة،
بل التوسع في استعمال علوم أخرى لفهم النص كعلم النفس االجتماعي، وعلم النفس
السلوكي، والعلوم االجتماعية والسياسية. ألن هناك عدة أبعاد ال بد من النظر إليها
ببعد نظر أيضا…
كما استعملت مصطلح الدهشة بدل الصدمة، لكني كنت بين المنزلتين ما فوق
الدهشة وأقل من الصدمة. الصدمة ربما يصنعها الفيلم السينمائي حتى تضع يدك
على فمك حتى ال تصرخ، وتكتم أنفاسك بفرط المشاهد الصادمة المفجعة. لكني
آثرت أن أكون أرسطيا في دهشتي كما عبر عنها في كتاب المتافيزيقا إذ يقول
“الفلسفة تبدأ بالدهشة” لذا فالتأويل عندي يبدأ بالدهشة أوال.
فكانت لهذه الرواية ولهذا النص المكتوب دهشة تصعد إلى الخيال فتقتحم العقل
بعدة أسئلة تأويلية فلسفية، تغوص في النفوس البشرية وسيكولوجيتها وتقوم بقراءة
متأنية لسوسيولوجيا هذا المجتمع المقهورالذي يغرق في التناقضات.
- تأويل تيمة المرايا
المرايا تيمة فلسفية وأيقونة أسطورية منذ اإلغريق واليونان والرومان وغدت في
الثقافة األوربية خاصة الغربية مشهورة ومتداولة مثل رواية mirror broken the
الشهيرة لالنجليزي جوناتان كوو، كما نجد الروايات الهولندية تقرن طواحين الهواء
مع المرايا بكل أنواعها. وهذا النوع من الرموز اإليحائية حاضرة بقوة في هذا
األدب الغربي الغرائبي .كما انتقلت إلى المسرح والسينما كالفيلم اإليطالي الفرنسي
miroir le de faces deux - ..ومسلسلات الرعب والرسوم المتحركة واللوحات الفنية
كما أننا نجدها حاضرة أيضا في الثقافة العربية شعرا ونثرا ونقدا، كما فعل
نجيب محفوظ في روايته “مرايا”. وربما آخرها أعمال الكاتب والناقد المصري
عبد العزيز حمودة رحمه هللا في كتابه األول “المرايا المحدبة من البنيوية إلى
التفكيك” ثم كتابه النقدي التالي ” المرايا المقعرة نحو نظرية نقدية عربية” إلى
كتابة األخير ” الخروج من التيه”…
وهذا ال يضير الرواية في شيء بالعكس، فلكل رواية تيهها ودهشتها
وصدمتها أيضا للقارئ أو المشاهد إذا طورت إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني
أو قصص مصورة، وكل هذا تستحقه هذه الرواية المدهشة التي بين أيدينا اليوم.
ألن تيمة المرايا تشكل محور الرؤية الفلسفية لهذا المجتمع الظالم الذي يسحق
الضعفاء، بل تقنعهم المرايا أنهم مشوهون ال يستحقون العيش داخلها. - دهشة التأويل في التأثير والتأثر باآلداب العالمية والعربية
التشويه أو القبح أو العيب في الجسد هو دهشة كبرى استخدمها الكثير من األدباء
للداللة على الشعوب المقهورة المقموعة في أبعادها السيكولوجية والسوسيولوجية
واألنثربولوجية.
أجد في الرواية بكل وضوح فيكتور هوغو باستحضار الرواية لشخصية أحدب
نوتردام الذي له عيب في ظهره مقابال لشخصية صطوف الذي عيبه في وجهه،
وكالهما من الهامش السحيق للمجتمع الظالم الذي ال يرحم.
استحضار فيكتور الثائر على الظلم االجتماعي واالستبداد السياسي ببلده حتى هاجر
إلى منفاه إلى بروكسيل كمالذ للكتابة بحرية دون متابعة أمنية، نفس األمر بالنسبة
للكاتبة اختارت أمستردام بهولندا كمالذ للكتابة واإلبداع وورشة للوحاتها المكتوبة
بالقلم أو الفرشاة واأللوان.
كما أدهشني حضور عبد الرحمن منيف ، في تشابه وطباق جميل بين مدن الملح
عنده ، ومدن األحزان عند لبنى ياسين، وهي داللة عميقة ال تخطئها عيون التأويل.
بل في روايته شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف أيضا نجد شخصية رجب الذي
عاش الوحدة المقيتة في زنزانة انفرادية في السجن، فكذلك صطوف عاش في ركن
بالبيت معزوال عن األسرة في وحدة مقيتة أيضا، فاألسرة سجن ، والمجتمع سجن
، حتى الورشة سجن، ألنه في كل مكان يكون متواريا عن األنظار وال يرغب أحد
في مخالطته.
في الرواية دهشة األضداد التي هي لعبة الجاحظ المفضلة، لعبتها بمهارة لبنى
ياسين في هذه الرواية، فإذا كان الجاحظ جعل من العاهة االجتماعية أو الصفة
الذميمة التي ال يحتملها العرب الذين يوصفون بالكرم واإليثار وإيواء األغراب
والضيوف يصفهم ب ” البخالء” لكنه يمنحهم ميزة مضادة هي إتقانهم للفكر والكتابة
وعذب الكالم، نفس المتاهة التأويل ية ولعبة الحبكة السردية فصطوف المصاب بعاهة
جسدية لتصبح عاهة اجتماعية كانعكاس مخلفة جرحا عميقا في النفس والشعور
والوجدان والسلوك، لكنه يتقن فن الخشب ويصنع المكتبات وأثاث البيت بمنتهى
المهارة والتفنن، بل يحب الشعر ويستدل به عندما يعجز لسانه. ويعيش بين دفتي
الروايات العالمية ويستلهم من دروسها وأبطالها.
- دهشة تشخيص رجل البيت الضعيف السلطة
هنا إشارة إلى السلطة في بعض البلدان المتخلفة التي يحمها أشخاص ال ترغب فيهم
مجتمعاتهم وشعوبهم. فبضعفهم يعتدي األغراب على شعوبهم ، وكما ضعف اإلدارة
والتسيير تخلف مواطنين مشوهين ، هدفهم هو أرضاء الكبار فقط. رغم وجود هذه
الفجوة المتباعدة وتفكك األسرة ينعكس على تفكك المجتمع. ويسود الظلم والتحقير
والتهميش والتمييز بين فئات المجتمع . هذه السلطة يتحكم فيها رجال األعمال
أصحاب المعامل والشركات والعقارات يمثلها أبو نعيم ، أي عنده نعمة ترمز للغناء
والثراء…
1.طبقة ناجية يمثلها ناجي أرستقراطية متعلمة ، لكنها انتهازية ومصلحية.
متحالفة مع السلطة وتمارس كذلك الظلم وتحقير وقمع الضعفاء
2.طبقة سالمة يمثلها سالم ، هي طبقة وسطى لم تنجو ولكن سلمت نوعا ما
من القمع والقهر والتهميش
3.طبقة ضعيفة جدا ، محتقرة مهمشة ال إرادة لها . هدفها إرضاء الكبار ما
فوقها بكل مراتبهم - دهشة التأويل في قراءة مواطن الظل
تمحورت الرواية حول شخصية تعيسة الحظ، لكن ليس لذاتها. بل كانت ضحية
األم، ضحية األب البليد، ضحية المجتمع، ضحية السلطة التي يمثلها هنا األب،
ضحية القمع، ضحية األسرة، ضحية المرأة، ضحية المرآة التي هشمها ولم يعد .