الكاتب محمد لحسن الحراق/ بلجيكا
صطوف فقد التوازن الروحي، بسبب انقطاعه عن المسجد. ثم إنه رغم إدمانه
على القراءة لم ينجح أيضا. ألنه ذهب إلى الثقافة والقراءة كمالذ، كضرورة لملء
الفراغ، وليس عاشقا. الضرورة هي التي دفعته، لهذا لم تنفعه فكانت نهاياته
مأساوية. أما إن كان ذهب عاشقا لها ستؤثر فيه وسيعشق الحياة ويجد فيها حلوال
جوهرية لمآسيه ولرأى فيها وجهه دون خدوش أو عيوب.
هنا إشارة وضفتها الكاتبة ببراعة مدهشة، فالتعليم للتثقيف والدين للتوازن
الروحي و التربية على القيم والمباديء هما الحل لكي نخرج من هذه القوقعة
االجتماعية ومن هذا االنحطاط المادي واألخالقي. فالعلم ضرورة والمسألة التعليمية
ضرورية أيضا ، لكن يجب إصالح النظرة إليهما بحيث يكون اإلقبال على العلم
والتعلم والقراءة والثقافة بعشق وحب وليس ديكورا وأثاثا للتظاهر وتزيين دولنا
وحكومتنا بوزارات الثقافة والتعليم للتباهي دون أن يكون المضمون المقدم للتعليم
صالحا لمواكبة العصر واللحاق بالدول المتقدمة.
- دهشة الخنوع للوصاية وعدم القدرة على اتخاذ القرار:
المقهور هنا يقبل بالوصاية كي ال يتخذ أي قرار، بل يخاف من اتخاذه ويرتعب
من ذلك فجسدت هذه الحقيقة المرة في الصفحة 114 ” لم يكن صطوف رجال مؤهال
التخاذ قرار، وال هو قادر على إبداء رأي واضح ينسبه لنفسه، لذلك كان إن صدف
وسئل عن رأيه ـ وهذا قلما يحصل ـ أجاب بآراء اآلخرين بل ونسبها إليهم، متوقعا
أن رأي اآلخرين المنسوب إليهم أكثر وقعا وإقناعا” هذا بالضبط ما أشار إليه
الكواكبي من آثار االستبداد على الشعوب المقهورة المتخلفة فيقول: ” االستبداد يقلب
الحقائق في األذهان )غسل األدمغة(، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر،
وتارك حقه مطيع،والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين
صالح…”9
وهذا األمر ال يحصل للمواطن المقهور فقط، بل حتى للمثقف المقهور والمتعلم
المقهور، والغني المقهور. ألن في المجتمع المقهور تسود منهجية واحدة في
التفكير، طبيعة االنهزامية وتحقير الذات. فالمثقف تجده يستحضر اللغات األجنبية
في كالمه إلقناع اآلخرين، بل يسوق أسماء عالمية ألنها أكثر رنينا عند السمع في
المجتمع، وال يستطيع االستدالل بمؤثرين في الثقافات من بني جلدته ومن هويته
الثقافية والحضارية كالجاحظ والجرجاني وابن خلدون وابن رشد والكواكبي…
يخاف من المجتمع المقهور أن يعده متخلفا. عكس األسماء الالمعة في الغرب فقد
تظهره بأنه وصل إلى التقدم والرقي الثقافي.
بل نجد صطوف أمام زوجته الشكلية التي باحت له باغتصابها من أبيها، أي
السلطة التي تغتصب البالد وخيراتها. لما تشجع معها أخذ يعدها بالنضال والتجرؤ،
ووعدها وعودا ثورية أخذت قرابة ثالث صفحات من الرواية. لكنه عند أول احتكاك
مع السلطة نسي كل تلك الوعود وعاد للخنوع من جديد. كما تفعل أحزابنا “الثورية
أو الليبرالية على حد سواء” في حمالتها االنتخابية من وعود كبيرة ضخمة واعدة،
لكن خيبة العروس / البالد أنه مجرد االقتراب من مربع الحكم تنسى األحزاب كل
ما وعدت به العروس.- دهشة كائن المرأة الضحية
المرأة عادة تكون هي رمز الحياة والجمال والحب، لكن بالنسبة لصطوف هي
السعوب المقهورة الحزينة، الحياة المعذبة، هي القرية الظالم أهلها، هي البالد التي
لم تجد من يدافع عنها من المغتصبين األجانب من القوى العالمية االستعمارية
المحتلة للبلدان، المغتصبة لحقوق وثروات الشعوب الضعيفة. وال من ظلم األقارب
أو من يتولى أمرها أن يقوم ـ من المفترض ـ بحمايتها من األغراب. لكن صدمة
الرواية كانت المقولة الشهيرة “حاميها حراميها” هي التي تتحقق وهي السائدة. - دهشة التغيير والهجرة
لما وجد له أخوه “سالم” وظيفة قارة عوض صناعة الخشب في الورشة، كان
التردد والخوف من التغيير، والتوجس من المستقبل. لذلك فإن الشعوب المقهورة
وإن قدمت لها الحلول والمشاريع لكي تنهض وتتقدم فهي تخاف من التغيير ومن
أي مشروع جديد للنهضة والتقدم والرقي.
لما قرر صطوف االبتعاد والهجرة بعيدا عن بيت العائلة، إلى حي آخر قريب
من مصدر رزقه كان يتردد أيضا. ألنه خوف التغيير، والخوف من تغيير الوضعية
القديمة التي تساكن معها وألفها حد التماهي التام معها. ولما استطاع أن )يقرر(
الخروج وهجران البيت القديم، كان يظن أن العائلة ستتمسك به وتريد أن يبقى في
أحضانها، لكن الدهشة بل الخيبة الكبيرة ـ له ولنا ـ أن أباه كمن كان ينتظر هذا
القرار. كحال مجتمعاتنا وبالدنا المقهورة يهجر شبابها وخيرة العقول فيها والكوادر
والعلماء والمثقفين، لكن ال تلقي لهم باال وال تنزعج من ذلك كأنها تنتظر رحيلهم
لكي تستريح ربما من إزعاجهم المستمر بسبب أفكارهم وتحريضهم للمجتمعات
ونشر الوعي بالمشروع البديل للرقي لمصاف األمم المتحضرة. - دهشة النهايات كدهشة البدايات
حين أشارت في بداية النص “في حارة فرعية من حواري دمشق الشعبية ، حيث
تساند البيوت العشوائية بعضها بعضا، وتقف كتفا إلى كتف في مواجهة الفقر” .
فقد أنهت الرواية بهذا التطابق والتكاثف وجها إلى وجه وكتفا بكتف في مواجهة
الموت. فجاء الوصف كالتالي:”رفع رأسه حتى واجه وجهها، أدار وجهها بقوة إليه،
وأجبرها على النظر إلى وجهه، أخبرها بأنه ال يحمل في وجهه أي تشويه” لكن
لألسف في عالم الموتى.
باإلضافة إلى ذلك الرمزية البارعة والداللة العميقة على ما تفعله األنظمة المستبدة
بالشعوب فال يتم اإلعتراف بالمواطن الصالح الخالي من أي عيوب إال بعد موته،
ال يتم تكريم الفنان والمبدع والشاعر والروائي والمثقف والعالم في وطننا إال عند
تأبينه، في حين كان يتمنى أن يسمع ولو حمسا شيئا يحيل على ثقافة االعتراف.
لكن الدهشة الكبرى لما استعاد وجهه الكامل دون تشويه ، هشمه على قضبان
السجن، ولم يستطع أن يعيش دون تشويه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 .محمد لحسن الحراق: كاتب وشاعر مغربي مقيم ببلجيكا، شارك بهذه الورقة في ندوة غرفة 19 التي تديرها
األديبة اللبنانية المهجرية من سان دييغو بكالفورنيا. مساء يوم اإلثنين 04/12/2023
2 .هل يوجد نص في هذا الفصل ، ستانلي فيتش أستاذ األدب المقارن بأمريكا. ترجمة أحمد الشيمي ومحمد بربري
. الطبعة األولى سنة 2004 عن المجلس األعلى للثقافة المصرية بالقاهرة، تحت إشراف جابر عصفور.
3 .لذة النص، روالن بارت. ترجمة فؤاد صفا والحسين سبحان . دار النشر توبقال الطبعة األولى سنة 1988 .
الصفحة 62
4 .الوسيط والوسائطية ، تأطير لساني ودراسة إجرائية لرومان جاكبسون . الدكتور حيدر غضبان ، دار ركاز
الطبعة األولى 2022.
5 .التخلف االجتماعي ، مدخل إلى سيكولوجية اإلنسان المقهور، مصطفى حجازي. المركز الثقافي العربي، الطبعة
التاسعة، سنة 2005 . الصفحة 123
6 .االنسان المهدور، دراسة تحليلية واجتماعية، مصطفى حجازي. المركز الثقافي العربي، الطبعة األولى، سنة
55 الصفحة 2005
7 .متالزمة ستوكهولم syndrome Stockholm هي ظاهرة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون
مع عدوه أو َمن أساء إليه بشكل من األشكال، أو يُظهر بعض عالمات الوالء له مثل أن يتعاطف ال ُمختَ َطف مع
ال ُمختَ ِطف. وتسمى أيضاً برابطة األَ 1973 حيث تُظهر فيها الرهينة أو ْسر أو الخطف وقد اشتهرت في العام
األسيرة التعاطف واالنسجام والمشاعر اإليجابية تجاه الخاطف أو اآلسر، تصل لدرجة الدفاع عنه والتضامن
معه. هذه المشاعر تعتبر بشكل عام َغْي َر منطقية وال عقالنية في ضوء الخطر والمجازفة اللتين تتحملهما
الضحية، إذ أنها تُفهم بشكل خاطئ – عدم اإلساءة من قبل المعتدي – إحساناً ورحمة. وقد سجلت ملفات الشرطة
وجود متالزمة ستوكهولم لدى 8 %من حاالت الرهائن.
8 .طبائع االستبداد ومصارع االستعباد، عبد الرحمن الكواكبي. دار النفائس الطبعة الثالثة لسنة 2006 ،الصفحة
114
9 .نفس المصدر ، الصفحة 125