الكاتب محمد لحسن الحراق/ بلجيكا
صاحب الورشة “أبو النعيم” يرمز إلى الطبقة الثرية السائدة في المجتمع
المتحالفة مع السلطة، لذلك فتتاح لها جميع الفرص في االغتصاب وسرقة حقوق
العمال دون حسيب وال رقيب وال حتى عتاب األحباب كما يقال.
خرج صطوف من العلم دون إرادته، ليشتغل مع أبي النعيم دون إرادته، وليذهب
أجره لغيره دون إرادته. وكأنه يقرأ عكسيا بيت أبي الطيب المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وهذا من عبقرية هذا النص أن تجد الشيء وضده، وفي الضد يظهر المعنى. بل
تضاد كما جاء في القصيدة اليتيمة:
ضدان لما استجمعا حسنا والضد يظهر حسنه الضد
ليكون عكس المراد:
ضدان لما استجمعا قبــحا والضد يظهر قبحه الضد
أي بمفهوم المخالفة كما يقول به األصوليون خاصة اإلمام الشافعي رحمه هللا.
“لم يعترض صطوف مرة واحدة، وال أظهر امتعاضا . فما زال يالحقه ذلك الشعور
البائس بأنه ال يستحق الفضاء الذي يشغله، وال الهواء الذي يدخل رئتيه، وحتى تلك
اللحظة كان يعمل جاهدا ألن يحبه أبوه وأخوه ، مستعد هو للعمل كثور في ساقية
لكي يشعر بأنه يقدم شيئا ما يجعله جديرا بتقديرهم ومحبتهم” )ص 77.)
- دهشة نكران الجميل واالحتقار المقيت
هنا أستعمل أداة من أدوات “هايدغر” نوعا ما فيما سماه التفسير الدائري للنص،
أي أن الفهم الحقيقي يكون مؤسسا على فهم سابق. بمعنى ما سردته الراوية العليمة
من أحداث في مجتمع الرواية أفهمه على أمثلة سابقة في معيشنا اليومي، بل أجد
فيها التطابق التام. كأني عشت مرارة هذا ال حدث المؤلم مرتين األولى في الواقع
والتجربة واآلخر في الرواية.
إنها نفس قصص المواطن الصالح المواطن الضعيف المواطن المهمش، المحتقر
الذي ال يؤبه له. صطوف العامل الكادح المتواري داخل منطقة معزولة بالورشة،
يكدح طول اليوم بال ملل وال كلل ليجمع المال لمنحه أبوه ألخيه، الذي أصبح طبيبا،
كما كان يسهر إلعداد كل تجهيز عيادة وبيت أخيه وأثاثه ليكون جاهزا يوم الزفاف
كامال متقنا جميال يسر الناظرين. اشترى صطوف أجمل الثياب لحضور هذا العرس
الكبير ألخيه األرستقراطي الذي أصبح من علية القوم ألن أصبح طبيبا له عيادة
على الشارع الرئيسي وسيتزوج طبيبة مثله من عائلة غنية. الدهشة في خيبة
صطوف أنه لم يكن مدعوا لحفل الزفاف، بل كانت رغبة الجميع أن يتوارى عن
األنظار وال يظهر أمام الضيوف الكبار. فتعلل األب بأن أبا نعيم سيحضر الحفل
وال ينبغي أن تبقى الورشة دون حارس.
حز هذا في نفس صطوف فعوض تلقي الشكر على ما صنعه ألخيه من لوازم
لتأثيث بيته والعيادة باإلضافة إلى األموال التي ضخها في ميزانيته لكي يصل إلى
ما وصل إليه، فإذا به ينكر الجميل والمعروف ويقابله بالالمباالة واالحتقار والنكران
والمعاملة بالجحود التام. لكن الدهشة الكبرى هو أن صطوف لم يكن مقتنعا بالدور
المناط به فقط بل وجد المبررات لهذا التحقير والتهميش بسبب الورشة تارة وبسبب
العيب و التشوه الذي يحمله وجهه. هذا الغوص العميق في نفسية الشعوب المحتقرة
المقهورة التي يعبر عنها صطوف في الرواية إلى درجة التماهي التام مع أحكام
السلطة التي يجسدها األب . وهذا ما تحدث عنه بالضبط مصطفى حجازي في
كتابه ” التخلف االجتماعي ، مدخل إلى سيكولوجية اإلنسان المقهور”، فقد سلط
الضوء على هذه الصفة الذميمة في شخصية االنسان المقهور سماها بالحرف
5″ التماهي بأحكام التسلط”
والتي هي ناتجة مباشرة عن ما سماه بالتحقير المعنوي
6 ، في كتاب آخر سماه “االنسان المهدور، دراسة تحليلة واجتماعية” 5 والجسدي
.
فالكاتبة كانت بارعة إلى حد بعيد في إظهار هذه السكولوجية المريضة إلى حد
االضطراب لإلنسان المهدور طاقته والمقهور في ذاته على حد سواء. فقد كان
7 النص يرمز إلى ظاهرة ما يسمى متالزمة ستوكهولم
التي يمكن تحديدها في
العناصر التالية:
ـ المشاعر اإليجابية تجاه المعتدي المتسلط
ـ دعم وتأييد سلوك وتفكير المعتدي
ـ المشاعر اإليجابية للمعتدي تجاه الضحية
ـ سلوكيا ٌت مساندةٌ للمعتدي من قبل الضحية بل مساعدة المعتدي
ـ عدم القدرة على المشاركة في أي سلوك يساعد على تحرير الضحية أو فك
ارتباطها
بل نجد مقولة لعبد الرحمن الكواكبي صاحب ” طبائع االستبداد متطابقة
” العوام هم ق تماما مع الوصف الدقيق للرواية لهذا المجتمع ، إذ يقول: َّوة المستبد
وق وت ه،بهم عليهم يصول ويطول. يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم
فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا
8 أسرف في أموالهم يقولون كريما، وإذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيما”
- دهشة الشعوب المقهورة التي تسوء أخالقها
في الشعوب المقهورة يكثر الظلم االجتماعي والغش والنصب واالحتيال
واغتصاب كل ضعيف كما فعل أو توفيق مع ابنته، ولو كانت جثة ميتة كما فعل
صطوف في مستودع األموات. وقد أحسن ابن خلدون “عالم العمران البشري”
)عالم اجتماع بلغة العصر( في تحليل دقيق لهذه الظاهرة والعاهة االجتماعية في
مقدمته فقال:” الشعوب المقهورة تسوء أخالقها، وكلما طال تهمي ش إنسانها يصبح
كالبهيمة، ال يهمه سوى اللقمة والغريزة”.
دهشة في وصف سيكولوجية المقموع
تظهر في ممارسة القمع واالستبداد على جثث الموتى، فتسلسل التسلط والقمع
هرمي من أعلى إلى أدنى، من األقوى إلى األضعف إلى آخر السلسلة، أو أخر
حجر في الهرم. سواء في النظام السياسي، أو الهرم اإلداري كما يسمى السلم
الوظيفي ، أو في السلم االجتماعي ، األكبر يقمع األصغر منه إلى أصغر فأصغر
إلى آخر صغير وضعيف في السلم. بل األخير يكون حقده أكبر على من هو أصغر
منه في الترتيب، ألنه يكون قد تحمل ثقال كبيرا من فنون القمع والتسلط المتسلسلة،
بل تورث إلى األبناء واألحفاد.
هذا ما كان يقوم به صطوف عندما يختلي بالموتى في مستودع األموات فقد كان
يقمعهم ويسبهم ويشتمهم ويوسعهم ضربا، إلى درجة أنهم يموتون من شدة الضرب
والبطش وهم أموات. وهذا ما يتعرض له الضعفاء هم موتى بالفقر والتهميش لكن
يتم البطش بهم وإذاللهم بمناسبة أو غير مناسبة.
- دهشة المالذ إلى القراءة والدين والفشل فيهما
جاءت هذه الدهشة في الرواية في الصفحة 79 ما يلي: ” وما أن يصل ليال إلى
ركنه حتى يفتح إحدى الروايات”، ومن بين هذه الرويات، رواية ” dames Notre
HUGO VICTOR de Paris de ( ” نوتردام دو باري لفيكتور هوجو(، بحيث وجد
بطله الملهم هو أحدب نوتردتم، فتاه مع البطل والرواية فأخذ يبحث بدوره عن
أزميرالدا الخاصة به. فاألحدب وإن فقد بعض مزاياه الجسدية الظاهرية، فهو لم
يفقد في باطنه وفي روحه الروح اإلنسانية العاطفية المحبة للجمال وللخير ونصرة
المظلومين.
نفس المشكل وقع مع صطوف ونفس المعاناة التي عاشها األحدب ، فقد كان
بدوره قابعا خلف جدران الكتدرائية منعزال عن العالم. ألن المجتمع المهزوم
المقهور يرتعب بدوره من العاهة ومن وصمة العار التي يوصم بها ، فيحاول أن
يخفيها ويحتقرها، ويحتقر الضعيف ويهمش المحرومين. حتى تأتي امرأة رمز
الجمال اإلنساني فيحدث التغيير، بتلك الطاقة اإليجابية والقوة الناعمة التي تحفز
على التغيير.
لكن الدهشة الكامنة داخل هذا النص، أن األحداث سارت في االتجاه المعاكس،
فإن صطوف وإن وجد المالذ في القراءة ليال، وأحيانا بالذهاب إلى المسجد لكنه
انقطع عنه، كما كان األحدب في الكاتدرائية. لكن لم ينجح صطوف فيما نجح فيه
أحدب نوتردام، وذلك لعدة أسباب استجليتها من خالل المفهوم وليس المنطوق طبعا.