
بقلم: الصحافي أمين بوشعيب/ إيطاليا

لم يشهد تاريخ البشرية جريمة تجويع جماعي لشعب كامل كما يحدث اليوم في غزة. أكثر من مليوني إنسان، نصفهم من الأطفال، يُتركون بلا ماء ولا طعام ولا كهرباء ولا دواء، وتُقصف مخازنهم الزراعية وشاحنات الإغاثة أمام أعين العالم، في حرب إبادة ممنهجة تُنفذها إسرائيل بدعم أمريكي وغربي مباشر، وبتواطؤ مفضوح من كثير من الأنظمة العربية.
منذ أكتوبر الماضي، تم تقنين التجويع كسلاح، تُمنع المساعدات، تُمنع المياه النظيفة، تُقصف مخازن الدقيق، وتُستهدف محطات التحلية، ويُحاصر الناس حتى الموت عطشًا وجوعًا، بينما تخرج البيانات العربية الباردة “نشجب وندين” بلا أثر ولا ضغط ولا خطوة عملية.
أي خزي أكبر من أن تُغلق المعابر العربية بوجه شاحنات الطعام، أو تُفتح بقطرات محدودة مدفوعة الثمن والذل؟ أي عار هذا الذي يجعل الحكومات العربية تتذرع بالخوف على سيادتها، وهي ترى أطفال غزة يموتون جوعًا وهم يصرخون “نريد ماء”، في زمن الوفود التطبيعية والاتفاقات السرية، والاحتفالات بالقمم الفارغة التي تُعقد في فنادق فاخرة بينما شعب غزة يأكل الحشائش!
العالم كله اليوم يرى هذه الجريمة الموصوفة، لكن الصمت يخيّم على المؤسسات الدولية التي تتحدث عن “حقوق الإنسان” متى شاءت، وتصمت متى شاءت، متواطئة مع الاحتلال الذي يقتل الناس ببطء. وما يزيد الألم أن كثيرًا من الإعلام العربي يروّج لرواية الاحتلال، ويتجاهل تجويع غزة أو يُمرره كخبر عابر، كأن أرواح أهل غزة لا تساوي شيئًا في سوق السياسة.
في وسط هذا الصمت المميت، تعالت صرخة أبو عبيدة الأخيرة، متحديًا العالم الذي باع غزة وتخلى عنها، وداعيًا الأمة إلى نصرة المظلومين، وهي صرخة خرجت من قلب الحصار والدمار والجوع، لكنها بقيت كصيحة في وادٍ، إذ لم تجد من يلتقطها من حكام العرب والمسلمين، ولم توقظ ضمائر الشعوب المستسلمة للتطبيع والأعذار والتبريرات. لقد كانت صرخة صدق ومروءة، لكنها ارتدت على الأمة العاجزة، وكأنها تقول لهم: “لن يغفر لكم التاريخ صمتكم على تجويع غزة.”
غزة اليوم هي امتحان للإنسانية والرجولة والشهامة والدين، فإما أن ننهض لإنقاذها، أو ندفن ما تبقى من كرامتنا للأبد. إن السكوت على تجويع غزة جريمة، والدفاع عن الأنظمة المشاركة في الحصار مشاركة في الجريمة، وتبرير الخذلان لا يعني سوى السقوط في هاوية الخيانة. غزة لا تحتاج بيانات، بل تحتاج كسر الحصار عمليًا، وإيصال الغذاء والدواء بالقوة، وإعلان العصيان ضد كل من يمنع عنها الحياة. لأن ما يحدث هناك ليس مجرد “نزاع سياسي”، بل أكبر عملية قتل جماعي وتجويع قسري في تاريخ العصر الحديث، جريمة موثقة بالصوت والصورة، تنفّذ على مرأى ومسمع كل العالم، والأكيد أنها ستلاحق كل من شارك وحاصر وسكت وساهم.
سيكتب التاريخ يومًا ما أنه: “في القرن الواحد والعشرين، وقف العرب يتفرجون على غزة وهي تُذبح جوعًا، ونام المسلمون بينما أطفال غزة يموتون عطشًا، وخرست الإنسانية في زمن كثرت فيه المنظمات الحقوقية والكلام عن الرحمة والسلام.” لكن السؤال الذي أصبح يؤرّق كل إنسان حرّ هو: هل أقبل أن أكون من الصامتين المتفرجين؟
لقد صدق أبو عبيدة حينما أشار في معرض خطابه إلى أن الاحتلال الصهيوني ما كان له أن يرتكب كل هذه الجرائم والإبادة الجماعية “إلا وقد أمن العقوبة وضمن الصمت واشترى الخذلان”. والواقع أن الوضع العربي والإسلامي يزداد سوءًا ويستمر في انحداره بما يجعلنا في ذيل الأمم والأقوام. نعم لم يكن الاحتلال الصهيوني بحاجة إلى شراء أسلحة جديدة ليدمر غزة، بل اشترى ما هو أخطر: الخذلان من الأنظمة العربية والإسلامية. صار الصمت الرسمي أغلى من النفط، وصار التطبيع هو البضاعة الرائجة في أسواق العواصم المترفة. تحت طاولات المؤتمرات، تُباع دماء الأطفال الفلسطينيين مقابل صفقات الغاز والكرسي. لم ينتصر العدو لأنه قوي، بل لأن بعض حكامنا ارتضوا أن يكونوا له درعًا من الخذلان، وسيفًا على شعوبهم إذا فكرت أن تقول “لا”. ومع ذلك، سيبقى الشعب الفلسطيني، بصموده وصواريخه وإيمانه بعدالة قضيته، يكتب التاريخ من جديد، ليثبت أن الأمة التي تملك اليقين لا تُهزم، مهما اشترى العدو من خيانات، ومهما باع الحكام من كرامة. أبو عبيدة لم يعفِ أحدا من مسؤولية الدم النازف في غزة، وهو يعلم كما يعلم كثيرون أن الأمة بإمكانها وقف العدوان، وباستطاعتها أن تنتصر للمكلومين من النساء والشيوخ والأطفال الذين يسقطون بالرصاص، كما يسقطون من شدة الجوع.
إن الفلسطينيين الذين استغاثوا بأشقائهم، لم يطلبوا من الأنظمة تحريك الجيوش للقتال معهم وإن كان هذا حقهم وواجب على أمتهم، بل طلبوا كسر الحصار وتمكينهم من الحد الأدنى الذي يبقيهم أحياء قادرين على المقاومة والصمود والدفاع عن الأرض والعرض.
فلاش: أُشهد الله، وأُشهد التاريخ، وأُشهد كل حرّ في هذه الأرض، أنني بريء من الحكام العرب، ومن خياناتهم، ومن سكوتهم، ومن خذلانهم لأهل غزة، يوم يُقتَّل الأطفال وتُهدم البيوت، وهم غارقون في قصورهم، يبيعون دماء الأمة على موائد التطبيع والذل.
بريء منهم يوم أسمع صرخة “أبو عبيدة” يطلب النصرة، فلا يجيبه إلا الأحرار العزّل، بينما الجيوش التي أكلت من أقوات الشعوب تصطف لتحمي عروشهم، لا لتحمي الأقصى. بريء منهم وهم يحاصرون غزة مع من يدّعون أنهم أعداؤهم، فلا يدخل دواء ولا يخرج جريح، وكأن الحصار صار دِينًا عندهم يعبدونه.
إن صرخات الأطفال تحت الركام ستبقى تلاحقهم، وإن دموع الثكالى لن تغسلها خطاباتهم الممجوجة، ولن يغفر لهم التاريخ أن تحالفوا مع من يقتل شعبنا ويحتل قبلتنا الأولى. هذه شهادة أرفعها إلى الله، أني لم أقبل بهذا الهوان، ولم أبارك لهم عروشهم التي تُبنى على أشلاء إخوتنا في غزة.
يا أهل غزة، يا أهل الرباط، إننا معكم بقلوبنا، بدعائنا، بكلماتنا، وبكل ما نستطيع، حتى يأذن الله بفتح قريب، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. وإن خانكم الحكام، فإن الأمة لم ولن تخذلكم، وسيبقى في هذه الأمة من يقول: لا في وجه الطغاة، ولو بكلمة، ولو بصرخة، ولو بقطرة دم.
والله على ما أقول شهيد.