
بقلم: الدكتور عادل بن حمزة

في مشهد سياسي غير مسبوق، شهدت جنوب إفريقيا تحولًا دراماتيكيًا لم يكن ليُتوقع قبل عقد فقط. فقد خسر حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، الذي قاد البلاد منذ سقوط نظام الأبارتايد، أغلبيته البرلمانية بعد انتخابات أيار/مايو 2025. هذه الخسارة لا تمثل مجرد تراجع انتخابي، بل هي انهيار لمرحلة كاملة من التاريخ السياسي الجنوب إفريقي، كان فيها الحزب الحاكم يُقدَّس بوصفه رمزًا للتحرر، حتى وهو يغرق في الفساد وسوء التدبير.
الأكثر إثارة للانتباه ليس فقط سقوط الحزب التاريخي، بل صعود حزب “رمح الأمة” (MK Party) بقيادة الرئيس السابق جاكوب زوما، الذي فاجأ الجميع بموقف جديد كليًا في السياسة الخارجية، حين أعلن قبل يومين دعمه الصريح لمبادرة الحكم الذاتي المغربية كحل واقعي ونهائي للصراع المفتعل حول الصحراء. خطوة أربكت الجزائر، التي كانت تعتبر جنوب إفريقيا حليفًا استراتيجيًا في دعم جبهة البوليساريو. لكن يبدو أن صفحة جديدة بدأت تُكتب في بريتوريا، على غرار ما شهدته مواقف كثيرا من الدول حول العالم كان آخرها الموقف التاريخي لبريطانيا.
فهل نحن أمام جنوب إفريقيا جديدة؟ دولة أكثر براغماتية وأقل خضوعًا لإرث أيديولوجي تجاوزه الزمن؟
موقف حزب زوما لا يمكن اختزاله في كونه مجرد مناورة سياسية أو ردة فعل انتقامية ضد حزب المؤتمر الوطني الذي همّشه في السنوات الأخيرة. ما حدث هو بداية مراجعة عميقة لتوجهات السياسة الخارجية للبلاد، التي ظلت لعقود أسيرة خطاب “تصفية الاستعمار” الذي اتُخذ ذريعة لسياسات منحازة لا تواكب الواقع الجديد في القارة. فالدعم غير المشروط للبوليساريو لم يكن يومًا مبنيًا على قراءة استراتيجية للمصالح الإفريقية المشتركة، بقدر ما كان استمرارا لاصطفاف إيديولوجي تعود جذوره إلى الحرب الباردة.
جزء من النخبة الحاكمة في بريتوريا يرفض الإعتراف بأن إفريقيا تغيّرت. إذ لم تعد لغة الشعارات الثورية تقنع الشعوب، ولم تعد أنظمة ما بعد الاستقلال قادرة على تبرير فشلها في التنمية والحكامة بدعوى المؤامرات الخارجية. لذلك آن الأوان لأن تعيد الدول الإفريقية تموقعها وفق مصالحها الحقيقية، لا وفق تحالفات رمزية مهترئة.
الأكثر أهمية في موقف حزب زوما هو دعوته إلى تحالف استراتيجي شامل مع المغرب، ليس فقط سياسيًا، بل اقتصاديًا وتنمويًا أيضًا، مؤكدًا على تاريخ مشترك في النضال ضد الاستعمار. وهذه المقاربة الجديدة تتناغم مع التحولات الكبرى التي تعرفها القارة، حيث باتت قوى إفريقية وازنة – ككينيا وغانا – تعلن دعمها للمبادرة المغربية، مدفوعة بنفس البراغماتية الواقعية.
إن دعم حزب “رمح الأمة” للمقترح المغربي يضع الجزائر في مأزق دبلوماسي واضح. فبعدما ظلت تعول على الموقف الجنوب إفريقي في المحافل الدولية، تجد نفسها اليوم في عزلة متزايدة، مع تراجع نفوذها القاري وتآكل شبكة تحالفاتها التقليدية. الأخطر من ذلك، أن النموذج الجزائري في إدارة الخلافات الإقليمية بات محل تساؤل، خصوصًا بعد أن أصبح من الواضح أن سياسة الدعم غير المشروط للبوليساريو لم تكتف فقط بعرقلة مسارات التكامل المغاربي ووحدة مصير دول الساحل والصحراء، بل إنها أضعف صوت إفريقيا في القضايا العالمية.
أما على مستوى الداخل الجنوب إفريقي، فإن خسارة حزب المؤتمر الوطني تعكس انهيارًا أخلاقيًا بقدر ما هو سياسي. فمنذ وفاة نيلسون مانديلا، لم يُفلح الحزب في الحفاظ على إرثه، بل تحوّل إلى عبء ثقيل على الدولة والمجتمع. البطالة، الفقر، انقطاع الكهرباء، وتفشي الفساد أصبحت عناوين المرحلة، بينما تآكلت شرعية الحزب الذي قاد “لجنة الحقيقة والمصالحة” ذات يوم، وتحول إلى كيان مأزوم يتغذى على الرمزية دون أن يقدّم حلولًا حقيقية.
في المقابل، يظهر حزب زوما – رغم كل ما يُقال عن ماضيه المثير للجدل – كمعبّر عن مرحلة سياسية جديدة، تتطلب من جنوب إفريقيا أن تنخرط في الواقع الإقليمي بعيون جديدة. فالنظام العالمي يتغير، وأفريقيا بحاجة إلى صوت عقلاني ومسؤول، يتجاوز الشعارات ويتجه نحو بناء شراكات عملية ومستدامة.
نحن إذن أمام مفترق طرق. إما أن تستمر جنوب إفريقيا في التغني بإرث مانديلا دون تجديد حقيقي في السياسات، أو أن تختار طريقًا جديدًا أكثر براغماتية، يعيد تموضعها كقوة إقليمية تقود بشراكات استراتيجية لا بشعارات قديمة.
دعم مبادرة الحكم الذاتي المغربية ليس نهاية التاريخ، لكنه قد يكون بداية مسار جديد، عنوانه: جنوب إفريقيا الجديدة، التي تحررت من عبء التاريخ لتواجه المستقبل بواقعية وشجاعة.