
بقلم: الدكتور عادل بن حمزة

من الحشد الشعبي في العراق إلى قوات الردع في غرب ليبيا مرورا بسلاح حزب الله في لبنان وسلاح قسد والدروز والعلويين في سوريا دون اغفال حالة قوات الدعم السريع في السودان، القاسم المشترك بين هذه الدول هو وجود ازدواجية في احتكار العنف بين الدولة وبين تنظيمات أخرى ذات بعد عرقي وطائفي ومناطقي بأبعاد سياسية و أجندات يحضر فيها الفاعل الخارجي في إطار ترتيبات تعرفها المنطقة على الصعيد الجيوستراتيجي.
في العراق فرض على الدولة ترسيم قوات الحشد الشعبي وجعلها جهازا من أجهزة الدولة العسكرية والأمنية، هذا الإجراء لم ينجح، على ما يبدو، في نزع البعد الطائفي الذي رافق لحظة تأسيس قوات الحشد الشعبي خاصة في مواجهة الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) التي كانت عاصمتها في الموصل وكانت في لحظة من لحظات تمددها على أطراف العاصمة العراقية بغداد بعد انهيار القوات المسلحة العراقية سنة 2014، قوات الحشد الشعبي تتكون من ثلاث فصائل بمرجعيات شيعية مختلفة، فمنها من يتبع آية الله الخامنئي بخلفية عقدية تقوم على الولاء ولاية الفقيه، ومنها من يتبع مرجعية محلية موزعة بين آية الله علي السيستاني، ومقتدى الصدر، وكلها مرجعيات لا علاقة لها بمؤسسات الدولة العراقية.
حالة الحشد الشعبي تتكرر في السودان مع بعض الخصوصية. فقد استمر الحكم العسكري هناك حوالي نصف قرن من تاريخ البلاد، الممتد منذ لحظة الاستقلال عن مصر وبريطانيا سنة 1956. ذلك أن النخبة السودانية فشلت في بناء دولة مدنية مستمرة، وبديلا عن ذلك خضعت البلاد لحكم العسكر عبر سلسلة من الانقلابات، لكن إذا كانت انقلابات عبود ونميري وسوار الذهب والبشير نتيجة للصراعات التي قامت بين تيارات سياسية وفشل تحالفاتها، سواء فيما بينها أو بينها وبين الجيش، فإن أحداث نيسان/ أبريل 2019 كانت إلتفافا من المؤسسة العسكرية على مطالب مدنية الدولة الذي رفعته القوى المدنية في شوارع الخرطوم، وبالتالي تمت التضحية بالبشير وبعض المقربين منه لاستمرار الحكم العسكري وإن لفترة انتقالية إلى حين ترتيب الأوضاع الجديدة، لكن تبقى قوات الدعم السريع التي أظهرت ازدواجية مؤسساتية في المؤسسة العسكرية، أبرز عامل ساهم في تعقيد مخطط إدامة الحكم العسكري وانقسامه، وهذه الوضعية يعرفها السودان لأول مرة، أي أن يكون هناك طرفان عسكريان شريكان في السلطة بحيث لا يمكن مقارنتها مع الوضعيات السابقة، سواء إبان انفراد المؤسسة العسكرية بالحكم في عهد عبود ونميري وسوار الذهب أو عند لجوء البشير بتحالف مع الإخوان وبعض المليشيات القبلية إلى تشكيل قوة شبه عسكرية تدعى قوات الدفاع الشعبي للمساهمة في مواجهة الحركة الانفصالية في الجنوب، وهو ما كرره البشير في حرب دارفور من خلال تأسيس قوات الدعم السريع التي انقلبت عليه بدافع من الطموح السياسي لقائدها حميدتي الذي كان البشير يدعوه حمايتي، وهو ما قاد البلاد منذ أزيد من سنتين إلى حرب داخلية وعدم استقرار طويل الأمد بالإضافة إلى ازدواجية مؤسساتية وسط وضع إنساني كارثي.
في ليبيا نجد مليشيا “قوات الأمن المركزي” التي أسسها عبد الغني الكيكلي الذي تم اغتياله شهر أيار/مايو الماضي، تم تغيير إسم المليشيا إلى “قوات دعم الاستقرار” وقد استطاعت اللعب على التناقضات والصراعات في بنية السلطة غرب ليبيا، لتفرض سيطرتها على ملفات مهمة مثل الهجرة ونقل الأموال بين مؤسسات الدولة، بل بلغ الأمر بالكيكلي إلى الرغبة في السيطرة على شركة اتصالات ليبيا، هذا التضخم في الطموح هو ما أدى إلى اغتياله بالنظر إلى حجم الخطر الذي أصبح يمثله على الدبيبة وحكومته في طرابلس، وما يجري اليوم مع “جهاز الردع” ما هو إلا فصل جديد من محاولة الدبيبة بسط نفوذه على أكبر المليشيات في ظل غياب جيش مركزي وهي ضربة استباقية لكل محاولة للتمرد على الحكومة في الغرب الليبي. مليشيا قوات الردع تشكلت سنة 2012 أي مباشرة بعد نهاية حكم العقيد القذافي، هذه المليشيا تمت إعادة هيكلتها سنة 2018 لتحمل إسم “جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب” ومن صلاحياتها الصفة الضبطية، حق مصادرة الأموال والممتلكات، حق مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي، ناهيك عن توفير مصادر تمويل منفصلة عن باقي الأجهزة الأمنية، هذا الوضع لا يختلف كثيرا عن واقع التركة التي خلفها العقيد القذافي الذي عمل بعد الانقلاب على تفكيك الجيش الليبي إلى مجرد مجموعات مسلحة وضع على رأسها أبنائه، يضاف إلى ذلك أنه لم ينجح أبدا في بناء دولة وهو الوضع المستمر في ليبيا المنقسمة بين بنغازي وطرابلس.
أما في سوريا التي فقدت فيها السلطة المركزية على عهد بشار الأسد نفوذها على مجموع التراب الوطني منذ انطلاق “الربيع العربي” سنة 2011، فقد تعددت فيها مناطق النفوذ التي تسيطر عليها جماعات مسلحة من “قسد” في المناطق الكردية إلى الدروز في السويداء مرورا بالمناطق التي كانت تسيطر عليها الجماعات الجهادية السنية مرورا بمناطق الساحل السوري معقل الطائفة العلوية التي لم تكن في السابق بحاجة إلى مظاهر التسلح وهو ما تغير بعد انهيار نظام الأسد، الواقع الحالي إمتداد للوضع السابق رغم محاولات السلطة الجديدة في دمشق بسط نفوذها على كل التراب السوري في إطار وحدة الدولة السورية، وهو أمر متعثر إلى الآن لاعتبارات داخلية تتعلق بكون السلطة الحالية هي سلطة أمر واقع وأن الدولة لم تنجح بعد في إرساء مؤسسات ديمقراطية تقدم الضمانات الكافية مقابل تسليم السلاح للحكومة المركزية، واعتبارات خارجية تتمثل في الحضور الأمريكي والتركي والإسرائيلي الذي يعقد عملية التحول السياسي في سوريا.
أخيرا يبقى النموذج الأبرز لرفض حصرية السلاح بيد الدولة متمثلا في حزب الله اللبناني، تارة تحت شعار المقاومة وتارة أخرى بخلفية عقدية ترتبط بالولاء لولاية الفقيه وضرورة التقيد بأوامره والتعامل مع سلاح الحزب كوديعة إيرانية غير قابلة للتصرف، ومرات أخرى لتأمين الطائفة الشيعية، جملة الحزب يرفض رفضا كليا تسليم السلاح للجيش اللبناني، وهو قرار يستبطن عدم الاقتناع بمؤسسة الجيش وبقية مؤسسات الدولة اللبنانية.
هذا الوضع الممتد على أكثر من بلد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يبرز إلى أي حد تدفع كثير من دول المنطقة ثمنا باهضا لغياب مؤسسة الدولة، وهو أمر ليس حديثا، ذلك أن التجارب السابقة التي حكمت تلك الدول نجحت إلى حد ما في بناء أنظمة لكنها فشلت في بناء دول، لذلك فإن مطلب حصرية السلاح بيد الدولة، ليس سوى انعكاس لأزمة أعمق تتعلق بالأعطاب البنيوية التي رافقت إنشاء الدولة في المنطقة.