
بقلم: الدكتور عادل بن حمزة

في زمن اللايقين الذي يتسم بتعقد غير مسبوق في تدفق المعلومات واحتدام الصراع على تشكيل الوعي، لم تعد الخوارزميات مجرد أدوات تقنية محايدة، بل تحولت إلى أحد أبرز الفاعلين الجدد في فضاء السلطة. لقد تجاوزت التقنية وظيفتها من وسيلة مساعدة إلى سلطة هرمية جديدة تعيد تشكيل المجال السياسي والاجتماعي بطرق غير مرئية، وتزعزع أسس الديمقراطية القائمة على الشفافية والرقابة والمساءلة. إن حكم الخوارزميات يشير تحديدا إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في اتخاذ قرارات كانت حكرا على البشر مثل ترتيب الأخبار، تصنيف الأفراد، التنبؤ بالسلوك، إدارة الخدمات العمومية… وهي عمليات لا تكتفي بقراءة الواقع، بل تعيد تشكيله عبر التحكم في تدفق المعلومات والبيانات وفي ما يعرض للمواطن على المنصات الرقمية، بما يجعل الخوارزميات صانعة للأجندة ومؤطرة لوعي الأفراد والمجتمعات.
على المستوى السياسي، أحدثت الخوارزميات تحولا عميقا في إدارة الرأي العام. فهي تمنح الأولوية للمحتويات الأكثر إثارة على حساب الجودة، ما يؤدي إلى انتشار الأخبار الزائفة وتعزيز الاستقطاب، بينما تستغل البيانات الشخصية لتوجيه دعاية سياسية دقيقة وفردية تقطع مع الخطابات الجماهيرية التقليدية. بهذه الطريقة يتفكك الفضاء العمومي إلى مجموعات معزولة تتلقى رسائل سياسية مختلفة، بل ومتعارضة، مما يصعب إمكانية التحقق ويضعف آليات المحاسبة الديمقراطية. وتعد فضيحة “كامبريدج أناليتيكا” سنة 2018 مثالا صارخا على هذا الانحراف، حيث جمعت الشركة البريطانية بيانات نحو 50 مليون مستخدم لفيسبوك دون إذنهم، واستغلتها لبناء نماذج نفسية وتوجيه رسائل سياسية شخصية خلال الانتخابات الأمريكية. ورغم نفي الأطراف المعنية، فإن الوثائق والتحقيقات اللاحقة أكدت استمرار استخدام تلك البيانات، كما كشفت أيضاً أنّ حملة باراك أوباما عام 2012 اعتمدت إستراتيجيات مشابهة، مما يبين تراكم الظاهرة في ظل ضعف التنظيم القانوني.
تكشف هذه التجارب عن تداخل عميق بين التقنية والسياسة، وعن مخاطر تفكك الفضاء العمومي، وتآكل الخصوصية، وتعميق اللامساواة الرقمية نتيجة انحياز الخوارزميات، التي تعكس صعود قوة جديدة غير منتخبة تتمثل في الشركات التكنولوجية والمبرمجين الذين يُصاغ جزء من السيادة الحديثة داخل مكاتبهم بعيدا عن المؤسسات التقليدية للسلطة وأدوات الحكم. وقد أظهرت انتخابات 2024 أن هذا الاتجاه يتعمق، من أوربا الشرقية إلى إفريقيا إلى الأمريكيتين حيث بقيت العمليات الانتخابية هدفا مفضلا للهجمات الرقمية، حيث تظهر صعوبات تقييم أثر المناورات المعلوماتية وإعدادات الخوارزميات على المواطنين وعلى سلوكهم الانتخابي، في ظل ضعف الحكومات عن إيجاد إطار لحماية الانتخابات في مواجهة استمرار مسؤولية المنصات الرقمية عن عيوب وضعف الشفافية. كما برزت أنظمة معلوماتية جديدة تقوم على انتشار المحتوى القصير، المؤثرين، والذكاء الاصطناعي التوليدي، مما يزيد هشاشة الفضاء الانتخابي.
وخلال الانتخابات التي شهدتها سنة 2024، وهي سنة يمكن إعتبارها سنة مرجعية بحكم التحولات التي عرفها مجال الذكاء الاصطناعي وتوسع مجالات استعماله في الحملات الانتخابية، تم رصد استراتيجيات خبيثة متعددة تقوم بتقويض مصداقية العمليات الانتخابية، تشويه سمعة مرشحين، استغلال القضايا الخلافية لرفع درجة الاستقطاب، تقويض الثقة في وسائل الإعلام التقليدية لصالح منصات بديلة، ونشر محتويات سياسية عبر الإعلانات أو عبر صور ومقاطع مولدة بالذكاء الاصطناعي، إضافة إلى انتحال أسماء وسائل إعلام وإنشاء مواقع تستهدف أحزابا معينة. كما ازداد التلاعب بالخوارزميات، واستخدمت حسابات غير أصيلة وبهويات مزورة للضغط على الرأي العام وتعريض هذا الأخير لمستوى معين من الهندسة الاجتماعية في بعدها السياسي حيث تجاوز الأمر في بعض الأحيان التدافع الانتخابي الداخلي، إلى مستويات من التحريض ضد أنظمة سياسية في إطار حرب هجينة من حروب الجيل السادس.
وتظهر حالتي رومانيا ورواندا من خلال الانتخابات شهدها البلدان سنة 2024 خطورة الوضعية التي يعرفها النظام الديمقراطي القائم على الانتخابات ففي رومانيا ألغت المحكمة الدستورية انتخاب مرشح اليمين المتطرف، كالين جورجيسكو، بسبب وجود تدخل خارجي واسع من روسيا في حملته الانتخابية عبر التضليل الرقمي وحسابات وهمية. واعتبرت السلطات أن هذه الممارسات أخلت بنزاهة الجولة الأولى من الانتخابات، فألغت نتائجها ورفضت الهيئة الانتخابية المركزية قبول ترشحه مجددا.
في رواندا ظهرت خطورة غياب إمكانية التتبع بخصوص الحسابات على المنصات الرقمية، إذ تم رصد شبكة تضم 464 حسابا منسقا على منصة X نشرت ما يناهز 650 ألف رسالة داعمة للرئيس كاغامي، مع استخدام “بوتات” ونماذج لغوية لتوليد خطاب سياسي يخلط بين الوضع الداخلي والصراع الإقليمي. هذه الممارسات تدل على قدرة الذكاء الاصطناعي على صناعة رأي عام افتراضي/وهمي بالكامل، وقد كشفت منصة X قبل أسبوع – عبر خاصية التحقق من الموقع – أن الكثير من الحسابات وهمية وذات طابع تحريضي ولا علاقة لها بالدول التي تصدر منها.
أما في الولايات المتحدة سنة 2025، فقد برز إغراء “عائد الكذب” الذي يمكن الفاعلين السياسيين من الطعن في أدلة حقيقية عبر الادعاء بأنها صور مزيفة أو “ديب فيك”، هذا النموذج يدخل الحقيقة في منطقة ضبابية، حيث إذا كان كل شيء يمكن أن يكون مزيفا، فحينها لا شيء سيكون حقيقيا.
أمام هذه التحديات، يصبح تعزيز الصمود الديمقراطي ضرورة ملحة، من خلال التربية الرقمية وتثقيف الجمهور والمؤثرين والمبرمجين وطلبة هندسة المعلوميات رقميا، وتقوية الإعلام بإعادة الاعتبار للإعلام التقليدي الذي يخضع لقواعد مهنية، وتطوير تشريعات للشفافية الخوارزمية، وفرض آليات التحقق من المعلومات، تكون عامة وواضحة تمنع استغلال الشك كسلاح سياسي.
إن حماية المجال العام القائم على التداول والحوار العقلاني، لا يمكن أن يتحقق إلا عبر تعاون مؤسساتي واسع يشمل الدولة، المنصات، الصحافة، والمجتمع المدني، حتى لا تتحول الخوارزميات إلى لاهوت جديد غير قابل للنقاش، يفرض سلطته في صمت ويقود نحو ديمقراطيات شكلية ورأي عام مصنوع/خادع لا يعكس إرادة المواطنين.
