
بقلم: الصحافي فؤاد السعدي

لم يكن السجال الذي انفجر بين محمد أوزين، الأمين العام لحزب الحركة الشعبية، وإدريس شحتان، صاحب موقع “شوف تيفي”، مجرد مشادة عابرة أو لحظة انفعال تحت قبة البرلمان يمكن تصنيفها في خانة الإثارة السياسية. ما جرى في العمق كان أقرب إلى كشف غير مقصود لأزمة بنيوية، أزمة علاقة الدولة بإعلامها، وأزمة اختيارات عمومية راكمت نموذجا إعلاميا مرتفع الضجيج، ضعيف الأثر، وممولا بسخاء من المال العام دون أن يترك بصمة حقيقية لا في الداخل ولا في الخارج.
فخلف اللغة الحادة والاتهامات المتبادلة، برز سؤال جوهري لا يتعلق بالأشخاص بقدر ما يمس النموذج نفسه. أي إعلام نريد؟ ولماذا مولناه؟ وماذا حصدنا في المقابل؟
حين خاطب أوزين رئيس الحكومة، لم يكن بصدد توجيه موعظة أخلاقية أو تسجيل موقف شعبوي، بل طرح سؤالا سياسيا واستراتيجيا بالغ الحساسية. سؤال من يستفيد من الدعم العمومي، وبأي منطق، وبأي حصيلة. وعندما تحدث عن مقاولات إعلامية ضخمة تمتص المال العام دون أن تنتج إعلاما يليق بقضايا البلاد، لم يكن يستهدف أسماء بعينها، بل وضع منظومة كاملة موضع مساءلة. منظومة راكمت الأرباح بدل التأثير، وبنت الانتشار على الإثارة لا على المصداقية، وانتهت إلى محتوى يطبع مع التفاهة ويفرغ النقاش العمومي من مضمونه.
غير أن الرد لم يأت في اتجاه مناقشة هذه الأسئلة أو تفكيكها بالأرقام والمعطيات، بل انزلق مباشرة نحو التشهير ونبش الوقائع القديمة واستدعاء منطق الفضيحة كوسيلة لإسكات السؤال بدل الإجابة عنه. وهنا بالضبط يتجلى جوهر الأزمة، لأن الإعلام الواثق من نفسه لا يخشى النقاش، ولا يستبدل الحجة بالسب، ولا يلجأ إلى التحقير حين يسأل عن شرعيته المهنية. وعندما يحدث العكس، فإن ذلك لا يبدد الشكوك بل يعمقها.
في خضم هذا الجدل، يصبح التركيز على أوزين أو شحتان مجرد تبسيط مخل، لأنه يحرف النقاش عن مساره الحقيقي. القضية لا تتعلق بأشخاص، بل بالبنية التي سمحت بظهور هذا النموذج الإعلامي، ورعته، وحمته، وضمنت له الاستمرار عبر تمويل عمومي سخي، دون ربط واضح بين المال العام والجودة أو الأثر أو خدمة القضايا الوطنية. لذلك، فإن السؤال الحقيقي هو أي إعلام تريد الدولة بناءه. إعلام مستقل وقادر على التأثير، أم إعلام مدجن صاخب، سريع الاستهلاك، لكنه مريح سياسيا.
الواقع أن هذا الخيار لم يكن وليد الصدفة. فقد جرى، على مدى سنوات، تفضيل نموذج إعلامي سطحي يستهلك الأجندة بدل أن يصنعها، لأنه أقل كلفة سياسيا وأخف وطأة على مراكز القرار. وهنا تتحدد طبيعة المعركة الحقيقية، معركة الإرادة السياسية التي تختار بين إعلام قوي يزعج ويسائل، وإعلام بلا أنياب يملأ الفراغ دون أن يغير شيئا.
ومن هذا المنطلق، يصبح سؤال غياب مؤسسات إعلامية مغربية مرجعية قادرة على التأثير داخليا وخارجيا سؤالا مشروعا. ليس لأن الصحافيين المغاربة يفتقرون إلى الكفاءة، ولا لأن السوق غير مؤهلة، بل لأن إنتاج إعلام قوي لم يكن يوما أولوية سياسية. الإعلام القوي يحرج، ويطرح الأسئلة الثقيلة، ويفتح الملفات المؤجلة، لذلك جرى تفضيل نموذج أقل إزعاجا، وأقل تأثيرا، وأقل مخاطرة.
بهذا المعنى، لم يكن الدعم العمومي أداة لبناء قوة ناعمة وطنية، بل تحول إلى وسيلة لتدجين المجال الإعلامي. لم يربط بالتحقيق، ولا بالاستقلالية، ولا بالقيمة الفكرية أو الفنية، بل بالانتشار وعدد النقرات والقدرة على ملء الفضاء بالتفاهة. وكانت النتيجة مزدوجة؛ إعلام داخلي فقد ثقة المواطن، وغياب ذراع إعلامية قادرة على الدفاع عن مصالح البلاد في الخارج.
الصدام بين أوزين وشحتان، إذن، ليس سوى عرض جانبي لأزمة أعمق، أزمة خيار سياسي راهن على الهدوء الآني على حساب القوة بعيدة المدى. إعلام لا يزعج اليوم، لكنه يترك الدولة عارية غدا. إعلام لا يخلق أزمات، لكنه لا يصنع هيبة. وإعلام يغذى بالدعم دون محاسبة، ينتهي عبئا بدل أن يكون رافعة.
لهذا، فإن معركة الإعلام ليست هامشية ولا تقنية، بل معركة سيادية بامتياز. فالدولة التي لا تمتلك إعلاما قويا لا تمتلك سرديتها، ولا صوتها، ولا قدرتها على الإقناع في عالم تحكمه الصورة والكلمة. وما لم يعاد النظر جذريا في فلسفة الدعم العمومي ومعاييره وأهدافه، فإن كل نقاش حول التفاهة سيظل دورانا في حلقة مفرغة.
في النهاية، القضية ليست من انتصر في هذا السجال، ولا من أساء لمن، بل هل تملك الدولة الشجاعة للاعتراف بأن الرهان على إعلام مدجن كان خطأ استراتيجيا. وهل تستطيع الانتقال من منطق التحكم إلى منطق الثقة، ومن إعلام لا يزعج إلى إعلام يقوي حتى وهو يزعج. فالدولة القوية لا تخاف من إعلام قوي، أما الدولة التي تخشى إعلامها، فإنها تختار، بوعي أو بدونه، أن تضعف نفسها بيدها.
